الهجرة
ما يحدث في ظلمات سوريا مع صيف عام 2015 هو تفريغ ديموغرافي للسكان، وعلى من هرب منها من قصف البراميلي والكيماوي أن يوطن نفسه أن لا عودة إليها. صديقي نزار اتصل بي اليوم من الإمارات هو حمصي سألته عن بيته وبيت من حوله فقال إنها أنقاض. هو الآن في الإمارات بدون أمل في إقامة دائمة، وابنته لونا فرت مع زوجها إلى أمريكا تبحث عن وطن جديد وهذه فكرة عاقلة. من حولي في القرية الجميلة التي بنيت لي فيها في سفح الجولان وهو مكان قذف صواريخ ومدافع البراميلي. وأعجب ما رأيت في قناة الأورينت عن شيخ شيعي معمم أنه سيقاتل عن بشار البراميلي ولو لم يبق أحد غيره، وأن الدكتور كذا يستحق مائة جائزة نوبل. قلت في نفسي مع الحرب والضرب يتحول البشر إلى بهائم حقيقة. في نفس الوقت كان داعية إسلامي (سني كذا) يقول لن نخدع بعد اليوم من عملاء إيران والويل لكم مما تصفون. تذكرت تلك الرسائل التي تبادلها فرويد مع آينشتاين في ظروف الحرب الكونية بعنوان أفكار لزمن الموت، نعم نحن نعيش زمن الموت. صديقي معاذ أرسل لي يخبرني أنه دفن أمه الأستاذة الرائعة الأريبة التي كانت من أوائل المدرسات في ثانويات دمشق، فكان نصيبها أن تموت في القاهرة. قلت له لقد جاءنا الدور ولكن الحيف على أولئك الشباب الذين يودعون إلى المقابر وكلهم حياة ويستلبون الحيات فتستلب منهم الحياة؟
ترددي بين القارات والأمصار، بما هو أطول من خط ابن بطوطة في رحلته من عجائب النظار، جعلني أصل إلى خلطة نفسية عجيبة، أن ليس ثمة مكان يسعد به الإنسان وينعم. ليس من وطن ومواطنة، ليس من مستقر ومستودع. يبدو أن الجنة حقيقة، والأرض فناء وتحول. فهل سندخل بعد الموت الكون الموازي فالقرآن يتحدث عن رزق قادم بكرة وعشيا. وعن أرائك مصفوفة وزرابي مبثوثة ونمارق مصفوفة وماء مسكوب.
رحلة الهجرة الطويلة لي أوصلتني إلى خلاصة نفسية عجيبة من يأس مطبق من الشرق وبصيص أمل في الغرب.
نحن من هاجر كما قال ديكارت، لم يعد الشرق يعجبنا، ولا الغرب يسعدنا، نحن نفسيا في الأرض التي لا اسم لها!
حين هاجرت في عام 1975م إلى ألمانيا بعد أن يئست من تحصيل الاختصاص في بلدي، لم يخطر في بالي أنني سوف أغادر وطني بدون عودة وأترك ديار البعث إلى يوم يبعثون.
ومن وضع قدمه في الهجرة، يجب أن يضع في حسابه أنه قد يبقى غريبا عن وطنه حتى القبر، ولو عاد له لشعر بالغربة فيه وبرودة عظامه، وهو ما حصل معي حين رأيت بيت جدي في مدينتي القامشلي وقد انقض بنيانه وأنقص من أطرافه، ولم تعد شجرة التوت الكبيرة في الحوش موجودة.
شعور التشرد والبرد النفسي يراودني الآن من جهتين، الانخلاع من الإرث القومي إلى الأفق الإنساني، وأن الأرض لله وأننا عباد الله، وأن الأرض تتغير من اختلاط الثقافات وامتزاج الأديان والعباد والعملات والزيجات.
وكنت أظن حين وضعت قدمي في أرض الجرمان، أنني سوف أصبح واحدا منهم بثلاثة أشهر أو سنة وسنتين وثلاث؟!
ولكن تبين لي بكل أسف أن الأمر ليس بهذه السهولة، وأن المرء يخترق حاجز المسافات الجغرافية في خمس ساعات، من بيروت إلى نورنبيرج. ويخترق حاجز اللغة في ثلاثة أشهر فينطق ما يمشِّي به يومياته من طعام وشراب ومطعم وملبس وأجرة وعناوين شوارع، ولكنه حتى يخترق ويندمج في الثقافة الألمانية قد لا يكفيه نصف قرن وما هو ببالغه.
لقد عشت بينهم تسع سنين عددا، كنت مطوقا بالبرد والغربة ولم أشعر يوما أنها ستكون مستقرا ومستودعا.
لقد فكرت طويلا في الاستقرار في المجتمع الألماني، بعد أن خسرت وطني الذي عصفت به الأحداث، والتهمته يد الانقلابات العسكرية، ودخل في نفق مظلم.
سوريا كما نراها اليوم هي تحصيل حاصل، كان تحليلي أنها ستنتهي إلى واحد من ثلاث، موت مطبق كما حصل للإسكيمو والبدو واليهود في التاريخ، كما وصف توينبي المجتمعات المحنطة، من وجود بيولوجي وغياب حضاري.
أو الخيار الثاني بالاجتياح العسكري وقد حصل هذا للعراق وأفغانستان فزاد الطين بلة وخرجوا من المطر إلى ما تحت المزراب كما يقول المثل.
أو ولادة نفس عظيمة من خلال ثورة نفسية وتحول روحي كما حصل لبني إسرائيل بولادة موسى فقادهم عبر البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.