الهجرة وصدام القيم
فيروز فوزي – مونتريال كندا
ليست الهجرة إلى الغرب، المتقدم حضاريا، مجرد أسراب وأجيال من البشر يغادرون أوطانهم الفقيرة إلى بلدان تؤمن معاشهم وتحفظ كرامتهم. هي حيوات مكلومة في الغالب الأعم تبحث عن هواء جديد لترميم وجودها الإنساني. يرتد المهاجر عن أمه الأرض، عن وطنه الشاهد على صرخته الأولى، لكنه لا يترك الجمل بما حمل.. بل يحمل معه حقائبه، وكل ما ترسخ في عقله من نمط في العيش والتفكير.
يبدو منذ الوهلة الأولى أن المهاجر يصبح في حل من مشاكله، بمجرد أن تطأ قدماه بلد المهجر وبمجرد أن يجد عملا قارا ومسكنا يؤويه. والحال أن بعض المشاكل تبدأ بالتفاقم نتيجة حالة الاغتراب التي تداهم الوافد الغريب، إذ تنجم عن أسباب اجتماعية واقتصادية لم تكن واردة في الحسبان.
غير أن ظاهرة الهجرة عرفت تحولات بنيوية، ببروز ظاهرة التجمعات العائلية التي أحدثت صدمة ثقافية، عصفت بكثير من الأسر.
مع نزوح عائلات عربية مسلمة إلى كندا واجه كثير من الأزواج، بسبب نقص في الكفاءة ومحدودية المؤهل الدراسي والعلمي، جملة من المعضلات تتعلق باللغة وصعوبة الاندماج في النسيج الاجتماعي الكندي والولوج إلى أسواق الشغل، مما جعلهم يعيشون تحت الضغط والعجز عن إيجاد حلول للمشاكل المادية والنفسية والأسرية المتراكمة.
يحدث هذا الوضع تصدعا أسريا في كثير من الحالات، ويدفع بأرباب الأسر وهم في الغالب ذكور إلى إرغام زوجاتهم على تفريخ مزيد من النسل، بهدف الاستفادة من التغطية الاجتماعية المتاحة للأسر المعوزة، وهي حيلة تتلاءم مع استراتيجية الدولة الكندية، التي تسعى إلى إعمار البلد بمزيد من المستوطنين الجدد. غير أن هذا الأمر يثقل كاهل المرأة، ويحولها إلى أداة ربحية ويفقدها الإحساس بآدميتها.
أيضا انفتاح المرأة العربية المسلمة على المجتمع الكندي، والانخراط في برامجه الاجتماعية والثقافية، قد يحدثان غيظا لدى الزوج الشرقي الذي يرفض أن تنقاد «الحرمة» وراء مغريات الحضارة الغربية، بل يرفض رفضا قاطعا أن تخرج من عصمته أو تفكر يوما في التحرر من سلطته، ظنا منه أن حرية الزوجة تفقد الرجل هيبته وتمس بفحولته.
هي اختلالات كبيرة تحول دون هجرة سليمة وتتسبب في كثير من المآسي الأسرية، تؤدي ثمنها المرأة المغلوبة على أمرها والأبناء، أمام حالات الشقاق والطلاق المتزايدة في أوساط الجاليات العربية المسلمة.
وتفيد كثير من التقارير التي أنجزتها بعض المراكز البحثية المتخصصة في شؤون الهجرة، بأن نسبة الطلاق تبقى عالية نسبيا في أوساط الجاليات العربية، بسبب الضغوطات التي تتعرض لها المرأة المهاجرة. فالهجرة من زاويتها القاتمة تكشف عن أوضاع مأساوية، بسبب سيادة العقلية الذكورية المتسلطة، والتي تمنع المرأة من التمتع بحقوقها كاملة في مجتمع متقدم يصون حقوق الإنسان.
نسبة كبيرة من النساء يرضخن للأمر الواقع، ولا تشكل الهجرة بالنسبة إليهن منفرجا لتحسين أوضاعهن المادية والحقوقية، بل تسوء في أحايين كثيرة وتفضي إلى عاهات نفسية مدمرة. بعض النساء يخترن الممانعة والمقاومة من أجل الانعتاق من سلطة الزوج المتجبرة، مما يجعلهن أمام خيار أبغض الحلال، وقد يعرض هذا الوضع أطفال الأسر المتصدعة إلى مآلات تضر بصحتهم النفسية.
فالهجرة بهذا المعنى هي هجرة عقليات تصطدم بالواقع الجديد، وبالقوانين والأعراف الحديثة والديمقراطية، حيث تؤول فيها السيادة للقيم الإنسانية على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، وحيث «الذكورة» أو «الفحولة» لا تعدو أن تكون حالة بيولوجية حيوانية.
أمام هذا الاختلال البنيوي في القيم الذي يعتور بعض العقليات المهاجرة، تبرز أهمية التأطير الاجتماعي والمواكبة الصحية، لمساعدة الأسر الهشة، وتيسير سبل الاندماج السلس والتأقلم مع البيئة الجديدة لتلافي كل أعطاب الهجرة، وهي مسؤولية الجمعيات والمراكز والمؤطرين الاجتماعيين، للقيام بأدوار الوساطة الاجتماعية، وتقديم حلول ناجعة لرأب التصدعات الأسرية المحتملة في أوساط المهاجرين.