الهاتف الذكي والمواطن الغبي
الذين يريدون فرض قيود قبلية على مستعملي شبكات التواصل الاجتماعي تخوفا من استعمالها بشكل خاطئ أو من استغلال جهات سياسية لقوتها الضاربة للإطاحة بخصومها، عليهم أن يطالعوا تقريرا مهما للوكالة الوطنية لتقنين المواصلات ANRT حول اجتياح الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي لحياة المغاربة.
اليوم هناك 99,8 من الأسر المغربية لديها هاتف نقال، 86,3 بالمائة من المغاربة لديهم هاتف ذكي، 74 بالمائة من المغاربة لديهم خدمة أنترنيت ويقضون أكثر من نصف ساعة يوميا في واتساب ويوتيوب وفيسبوك .
تكشف الدراسة أيضا عن مشتريات المغاربة عبر الأنترنيت والتي تتراوح ما بين شراء بوشرويط (70 بالمائة)، والماكياج (29 بالمائة) والسفر (28 بالمائة).
هذا يظهر بشكل واضح قوة تأثير الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعية المجانية على حياتنا، مما يجعلنا عاجزين عن تخيل، مجرد تخيل، حياتنا بدون هذه الوسائل التي ولد وكبر وعاش بها جيل كامل لا علاقة له بوسائل الاتصال التقليدية التي كانت سائدة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.
نحن أمام جيل كامل لم يلحس طابع البريد بلسانه لكي يبلله بلعابه قبل أن يلصقه فوق ظرف الرسالة البريدية، فأبناء اليوم يتراسلون بواسطة البريد الإلكتروني والواتساب والسناب شات والإنستغرام وما إلى ذلك من تطبيقات وسائل الاتصال الحديثة.
نحن أمام جيل كامل لم يجرب في يوم من الأيام أن يدخل “ستيلو بيك” في إحدى دوائر “الكاسيطة” لكي يعيد الشريط الموسيقي إلى الخلف لأن زر “السجالة” معطل لأن الجميع اليوم لديه تطبيقات موسيقية على هاتفه يستطيع أن يستمع فيها لكل ما يحب.
ونحن أمام جيل كامل لم يجرب يوما إلصاق أذنه على “الباف” بحثا عن موجة بعيدة في مذياع، ولم يجرب طعم الكاربون الأسود في فمه عندما يعض “حجر” الراديو الميت بحثا عن بعث بعض الطاقة فيها، هذا دون الحديث عن سلقها في الماء فوق النار مثل البطاطس لتمديد مدة صلاحياتها، لأن الجميع لديه هاتف ذكي يمكنه من التقاط جميع الإذاعات.
الآن لم يعد أبناء اليوم يحتاجون سعاة البريد كما كنا نحن نحتاجهم، فهم منشغلون بكتابة الرسائل الهاتفية القصيرة المليئة بالأخطاء عوض كتابة واحدة من تلك الرسائل التي كنا نقضي أياما في مراجعتها وانتقاء كلماتها والرسومات التي سترافقها قبل إرسالها بطابع بريد مستعمل ممسوح فوق جباهنا لإزالة طابع البوسطة.
نحن اليوم أمام جالية مغربية قاطنة في الفيسبوك تتواصل وتقرر وتتخذ الموقف المناسب أمام لوحة آيباد أو شاشة هاتف ذكي.
واليوم هناك حوالي 16 مليون مغربي لديهم حساب في الفيسبوك، مما يعني أن كل مغربي أصبح شاهدا وصحافيا مفترضا ناقلا للخبر والحدث والمعلومة من مكان حدوثها، يلتقطها بهاتفه ينشرها في صفحته يقتسمها مع الملايين.
وصانعو السياسات العمومية الذين ما زالوا يعتقدون أنهم بممارستهم الرقابة على الإعلام العمومي ومنع وصول الخبر إلى الرأي العام في وقته وبالصيغة الأقرب إلى الحقيقة واهمون، لأننا أصبحنا نعيش في عصر رقمي مفتوح الجميع فيه يلتقط ويعمم ويعلق على الخبر بحرية وجرأة.
والدليل على أن مواقع التواصل الاجتماعي حلت محل مؤسسات الوساطة هو أن المؤسسات الرسمية والعمومية نفسها تتفاعل مع ما ينشر في هذه المنصات بسرعة.
وما لم ينتبه له صانعو السياسات العمومية في المغرب هو أن المجتمع يعيش تحولات جذرية متسارعة في وقت مازالت فيه الأحزاب والنقابات والإعلام العمومي تعيش عصرها الحجري.
فالتنسيقات، التي تعتمد أساسا على شبكات التواصل الاجتماعي لحشد الدعم، عوضت الفراغ الذي خلفه انهيار النقابات بسبب جشع زعمائها ورغبتهم في الخلود على رأسها.
والمؤثرون والمؤثرات الذين يشتغلون في الموضة واللباس والماكياج عوضوا المؤثرين السياسيين والاجتماعيين.
الأخبار الكاذبة في مواقع التواصل الاجتماعي حيث الفيديوهات المختلقة والحوادث المصنوعة عوضت الصحافة حيث الأخبار المبنية على مصادر والافتتاحيات حيث الرأي.
أما الإلتراس وشعاراتها فقد عوضت الفراغ الذي خلفته الأحزاب، فإلتراس الوداد والرجاء والنادي القنيطري وغرين بويز تصنف ضمن أكبر عشر إلترات في العالم من حيث التنظيم والعدد، وبفضل تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت أغنية مثل “فبلادي ظلموني” بمثابة “مانيفيسطو إيديولوجي” يلخص مطالب وهموم وأحلام وانكسارات ملايين الشباب الذين بقوا على هامش التنمية.
وعوض سماع الشعارات السياسية في التظاهرات الحزبية والنقابية أصبحت الشعارات تسمع في الملاعب، حيث تردد حناجر الشباب شعارات فيها منسوب عال من الاحتجاج والمطالب الاجتماعية والسياسية.
في السابق كان الشباب يتدرجون داخل التنظيمات الحزبية من جراميز في المخيمات إلى التنظيمات الموازية التابعة للحزب في الثانويات والجامعات، فأصبحوا اليوم يتدرجون في المسؤوليات فوق مدرجات الملاعب ويترقون في تنظيمات الإلترات من كابو إلى كاتب كلمات إلى كورال أو مصمم لوحات وتنظيم التنقلات والإشراف على مصادر التمويل.
وهذه المتغيرات الجذرية التي مست مؤسسات الوساطة بين الشعب وصانعي السياسات العمومية لم تكن لتحدث لولا هذه الثورة التي أحدثتها الهواتف الذكية في حياتنا اليومية، وأصبحنا بالتالي خاضعين لسطوتها وسيطرتها.
وفي النهاية فالمشكلة ليست في الهاتف الذكي، بل عندما يقع الهاتف الذكي في يد المواطن الغبي.