شوف تشوف

شوف تشوف

النونة العنيدة

مرة أخرى تتناقل وسائل إعلام عالمية المغرب بسبب خبر يدخل في إطار الحوادث التي كان من الممكن تفاديها بتطبيق المساطر والقوانين الجارية.
في الدول التي تحترم نفسها لا تستطيع البلديات الترخيص لفنان بالاشتغال على عمل سيكون معروضا في أحد الأماكن العمومية، ممول من المال العام، دون خضوع مقترحه للدراسة من طرف لجنة متخصصة قبل منحه الموافقة.
في حالة نحات المهدية الذي قام ببناء نصب يمثل سمكتين، ونقول سمكتين تجاوزا لأنني شخصيًا رأيت سمكا كثيرا خلال حياتي السابقة ولم أر سمكة بذلك الشكل وذلك الفم الذي تفتقت عنه عبقرية النحات، فيبدو أن عمله لم يخضع للدراسة من طرف لجنة مختصة في الفن قبل إعطائه الترخيص بتنفيذ العمل. اللهم إذا كان مخطوطه وطلبه قد عرض فعلا على لجنة في البلدية ووافقت له، في هذه الحالة فالعيب في اللجنة وليس في النحات، وهي من يجب أن تخضع للمحاسبة.
ومن يدري، لعلنا نظلم اللجنة أيضا، فربنا عرض عليها النحات هندسة منحوتته بشكل فني جميل على الورق، لكن تنزيل الرسم على الأرض جاء بهذا الشكل الغريب والمستفز.
لكن عندما نسمع ونرى الطريقة التي عبر بها النحات عن تذمره من قرار هدم نصب “النونتين” وأنه لم يكمل العمل بعد وأنه كان سيضيف الإضاءة والموسيقى، نفهم أن السيد ليس له تكوين في مجال النحت، وأنه مجرد فنان هاو.
لقد وقع في مصر خلال هذا الصيف الجدل نفسه بعد نحت أحد الفنانين لتمثال يتشبه بتمثال نهضة مصر، فانهالت عليه الهجومات من كل جانب بسبب المنحوتة التي جاءت على شكل امرأة غريبة تخرج من صخرة.
فلم يجد النحات من ذريعة يبرر بها ما اقترفته يداه سوى أن ادعى أن العمل لم يكتمل بعد وأن مهاجميه ظلموه.
الشيء نفسه قاله صاحب منحوتة سمكتي “النونة العنيدة” التي اتخذ قرار بهدم نصبها بعدما رأى فيها الناس شيئًا آخر غير سمكتي حنكليس تتلويان في الهواء.
وقبل سنوات كنت في زيارة لبيت والدتي في مدينة ابن سليمان وعندما خرجت وجدت نحاتًا صديقًا ينتظرني أمام الباب وبمجرد ما رآني بدأ يحدثني محتدًا عن مشكلته مع البلدية التي أزالت له “البلوطة”، وبما أنني لم أفهم قصده طلبت منه أن يشرح لي القصة.
فقال لي إنه اتفق مع البلدية والعمالة على إنجاز منحوتة في إحدى مدارات مدخل المدينة، وأنه أوفى بوعده وأنجز منحوتة، لكن الشكل النهائي للرسم جاء مشابهًا لرأس حبة بلوطة. وأضاف أن بعض وسطاء السوء ذهبوا يوشوشون في أذن العامل بأن المنحوتة سبة للمدينة لأنها ترمز لشيء فاحش. فما كان من العامل سوى أن أصدر أمرا باقتلاع البلوطة من مكانها.
تطرح هذه النازلة التي تبدو عادية وطريفة مشاكل عميقة في الواقع، منها ما يرتبط بالعقل الباطن للمغاربة ومنها ما يتعلق بالتسيير داخل المدن والحواضر.
في ما يتعلق بالعقل الباطن للمغاربة فهناك حضور طاغي للجنس، سواء في الكلام اليومي أو في طريقة تفسير ما يحدث أو على مستوى الفعل اليومي، فالجنس حاضر بشكل مرضي أحيانًا، وهذا ما يفسر أن المغاربة يحتلون مرتبة جد متقدمة في تصفح المواقع الإباحية، كما أن لغتنا اليومية مليئة بالشتائم الجنسية، والإيحاءات الإيروتيكية.
الجانب الآخر الذي تكشف عنه هذه النازلة وهو المهم هو غياب الحس الجمالي في المدن والبلديات. فالسائد هو البشاعة المعمارية والمشاهد البئيسة والكالحة للجدران العارية للبنايات المشيدة داخل مجالات تفتقر لأبسط اللمسات الفنية.
ليست هناك بلدية أو جماعة لديها ما يكفي من مهندسي الديكور الخارجي لكي يعطوا للمدن التي يسيرونها لمسة جمالية محلية أو كونية، فهم فالحون فقط في رسم المدارات والأرصفة وتلك الهضاب المرتفعة التي ينجزون فوق الطرقات للتقليل من السرعة والتي تحطم قطع غيار سيارات المواطنين وتحرق أعصابهم كلما قفزوا فوقها مثل خيول مضمار السباق.
والحقيقة أن كل المدن المغربية لديها فنانوها المغمورون الذين يشتغلون في صمت والذين أصابهم الكساد خلال فترة الحجر الصحي وأصبحوا اليوم بسبب تداعيات الجائحة على أبواب الخروج للتسول.
هؤلاء الفنانون التشكيليون والنحاتون كان الأجدر ببلديات المدن تذكرهم خلال هذه الأزمنة الصعبة واقتناء بعض أعمالهم لتزيين المدن الكالحة ومنحها شيئًا من الجمال، عوض هذه البشاعة الإسمنتية المنتشرة كالفطر.
وعوض أن تساعد بعض هذه البلديات الفنانين الموهوبين المحتاجين فإنها تفضل مساعدة فنان كمحمد المليحي الذي في عز الجائحة باع لوحة بأزيد من 500 مليون بمزاد “سوثبيز” في لندن، واليوم يثار نقاش حاد في أكادير بسبب تفويت مشروع إنجاز الهوية البصرية لاسم المدينة لهذا الفنان الذي أنتج هوية بصرية تمتح من أهرامات مصر عوض منح الفرصة لفنانين وخطاطين من سوس وهم كثر، أو على الأقل الاحتفاظ بالهوية البصرية السابقة التي تبدو لي شخصيًا أجمل.
وفي طنجة مثلًا يمكنك أن تعثر على منحوتات النحاتة المغربية العالمية إكرام القباج التي اشترتها البلدية بأموال دافعي الضرائب، لكن ليس في كورنيش مالاباطا بل جنب أسطل القمامة بمستودع البلدية التي يقودها واحد من الحزب الحاكم.
ومن يدري فربما تسافر تلك المنحوتة المهملة جنب حاوية القمامة نحو حديقة فيلا أحدهم كما سبق أن سافرت مدافع تاريخية ومأثورات قديمة لا تقدر بثمن.
والواقع أن مدنًا وبلديات كثيرة تستبيح الساحات والمدارات والحدائق لنصب بشاعات لا علاقة لها بالفن أو النحت، فقط إرضاء لبعض الفاشلين الذين سقطوا سهوا في مجال الفن والنحت، أو لمجرد تبرير تبديد مصاريف تحت غطاء الفن.
وكما تنبهت وزارة الداخلية لفضيحة إطلاق أسماء ما أنزل الله بها من سلطان على شوارع وأزقة المدن من طرف رؤساء بعض البلديات بعد فضيحة تمارة يجب أن تنتبه أكثر لما “ينصبه” بعض هؤلاء المنتخبين في الفضاءات العامة، “حيت إلى بقاو غادين هاكا شي نهار نفيقو نلقاوهم ناصبين شي مصيبة”.
لذلك فليس مطلوبًا من رئيس بلدية المهدية أن يخرج لكي يخبر السكان بأنهم سيعملون على تعويض تلك المنحوتة بأخرى غيرها، وإنما المطلوب منه أن يدفع من جيبه مصاريف بناء وتهديم تلك المنحوتة التي صرف عليها المال العام لأنه هو المسؤول عن “ارتكابها”.
الذي يحدث في الدول التي تحترم القانون هو أن أي مجلس بلدي أو مؤسسة عمومية أرادت أن تبني مجسما فنيا في مكان عمومي يقوم أولًا بإعلان طلبات عروض مفتوح أمام كل فناني المدينة ضمانًا للتعددية والشفافية والمساواة، وبعد ذلك تعرض الطلبات على لجنة مختصة في الشؤون الفنية هي التي تختار الطلب الذي يستجيب للشروط التي وضعها المجلس.
لكن عندنا بما أنه من أصل 30 ألفا و663 مستشارا يسيرون شؤون جماعات المملكة البالغ عددها 1503 جماعات، نجد أن حوالي 4739 منهم لم يلجوا المدارس في حياتهم، فماذا يمكن أن تتوقع من هؤلاء الأميين غير هذه الكوارث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى