النهر لم يعد خالدا
المصطفى مورادي
فجأة اكتشف عموم المصريين بأن نهر النيل ليس مصريا. هذا النهر الذي تنسب له حضارة الفراعنة، وكان المصريون القدامى يَهَبون له العذارى ليستمر في التدفق. هذا النهر الذي كتب عنه عظماء الأدب العربي قصائد تحمل اسمه، وأبرزهم أمير الشعراء. هذا النهر الذي غنت عنه «الست» ووصفه محمد عبد الوهاب بـ«الخالد»… هذا النهر لم يعد خالدا ولن تنفع معه كل طقوس المصريين القدامى في ضمان عطائه. ببساطة لأن إثيوبيا انتبهت، بعد قرون، إلى أن النهر ينبع من أراضيها، فقررت أن تبني سدا أعطته اسم «النهضة». وهو ما يعني أن المدة التي سيتطلبها هذا السد لملئه ستفقد مصر 95 في المائة من مياهها. فبعد عقود كان المصريون يتعاملون بعنجهية غريبة مع الأفارقة، وذلك منذ أن نصب عبد الناصر نفسه زعيما للشعوب، مرورا بالسادات المنتشي بحرب أكتوبر، وصولا إلى مبارك الذي كان يدير مشكلة تقاسم مياه النيل انطلاقا من توافقاته مع سكان البيت الأبيض. بعد هذه المدة أضحى النيل مصدرا لقلق وتوتر بعد أن كان مصدرا للحب والجمال. وأضحى مصدرا لمشكلات أمنية قد تعصف تعقيداتها بالوضع الهش للحاكم العسكري المصري في القريب العاجل.
أما في تفاصيل ما يحدث الآن، فإن الحاكم العسكري لمصر طمأن مواطنيه قبل أربع سنوات بأن مفاوضاته مع الإثيوبيين نجحت في ضمان نصيب مصر من المياه والمقدر بـ 54 مليار متر مكعب. على أساس أن يتم ملء السد في فترة سبع سنوات. لكن تغيرات كثيرة حصلت في الشأن الداخلي الإثيوبي، ومنها انتخاب الشاب «آبي أحمد علي»، الفائز بجائزة نوبل للسلام قبل أيام، رئيسا للوزراء، ووضعه البلد في سكة تنموية جديدة كليا، أعادت إحياء مشروع سد النهضة من جديد، هذا السد الذي تم الشروع في بنائه سنة 2011، قرر الإثيوبيون أن يكون جاهزا قبل 2022، وعلى أن يتراجعوا عن الاتفاقات السابقة مع مختلف الرؤساء المصريين، بحيث يملؤوه في ظرف ثلاث سنوات لكون البلد في حاجة إليه طاقيا، وهو ما يعني تقليص حصة مصر من المياه إلى نصف حصتها المتفق حولها.
تزامن الشروع في بناء هذا السد مع ثورة 25 يناير التي أطاحت بحسني مبارك أضحى ورقة جديدة في الجدل السياسي داخل مصر هذه الأيام. إذ لا حديث إلا عن كلام منسوب للسيسي، في مؤتمر شبابي يقول فيه بأن «مصر عرَّت ظهرها وكتفها»، وهو تعبير يقوله المصريون عن النساء الغواني اللائي يأكلن من أجسادهن. فحسب التحليل «السيسوي» فثورة 25 يناير لم تعد مفخرة ينبغي الاعتزاز بها بل خطأ ينبغي الانتباه له، وإلا سيقع لمصر أكثر مما حدث لها عقب هذه الثورة. ذلك، وحسب السيسي دوما، أنه لو لم تكن هذه الثورة لما تجرأ الإثيوبيون على تهديد الأمن المائي المصري.
إذن، في الوقت الذي تجني فيه تونس ثمرة من ثمار ثورتها، بانتخاب رئيس يعتز بكونه من أبناء ثورة الياسمين، هاهو الحاكم العسكري المصري يقرأ قراءة أخرى للثورة التي حدثت في مصر أسابيع قليلة بعد ثورة تونس. ويعتبر أم الدنيا «عاهرة» لكونها «ثائرة»، ويتوعد شعبه بأنه سيعمل فيها أكثر مما عمل فيها إذا هم فكروا مرة أخرى في تكرار 25 يناير.
فمثلما «من له بر له لا بحر له» كما يقول محمود درويش، فإن «من لا منبع له لا مصب له». هذه الحقيقة التي لم يفق المصريون بعد من هولها، لن تمس فقط الحاجيات من المياه لمائة مليون مواطن، بل ستغير الكثير من المعطيات الديموغرافية والاقتصادية لعشرات المدن والقرى التي تقع في حوض النيل وتعتمد عليه بشكل مباشر أو غير مباشر اقتصاديا. وبدل أن يفكر الحاكم العسكري في بدائل، بما فيها اللجوء للقانون الدولي، فإنه يفضل استغلال حالة الخوف العظيمة من فقدان مياه النيل ليُخوف الشعب المصري من «مغبة» الثورة مجددا، لأن في منبع النيل هناك «عدو» متربص.. يسمى «آبي أحمد علي» سينقض على النيل إذا هم ثاروا. بمعنى تعايشوا مع عطشكم للحرية، واحذروا من تكرار خطأ الإطاحة بالنظام، وإلا فإنكم ستموتون عطشا من المياه.