النعرة الناصرية
عبد الرزاق الحجوي
شكل عبد الناصر، صاحب نظرية اجتثاث الملكيات من الوطن العربي، تمهيدا لاكتساحه، والذي وظف مشروع القومية من أجل السيطرة على الجماهير، حتى يسهل عليه اقتلاع الملكيات بواسطة غضب هذه الجماهير الجارف، وذلك بتأجيج نقمتها إلى أقصى الحدود على ملوك مثل الملك الراحل إدريس السنوسي، ملكيات كان ذنبها الذي لا يغتفر هو تفادي التصادم مع صخرة أمريكا وبريطانيا وفرنسا، التي لم تخفي يوما بأن أمن إسرائيل هو من أمنها القومي، بعد توقف هؤلاء الملوك أيضا أمام حقيقة تواضع الإمكانيات والمستوى التقني، فلم ينخرطوا كليا في مغامرات عبد الناصر الذي نفسه لم يغادر هذه الدنيا قبل أن يقف على استحالتها الظرفية لا المبدئية، بعد تجربة عملية ومريرة وجد مكلفة بسبب اختلال موازين القوة القائم، حيث قال إن الذي سيخلفه عليه توقيع السلام مع إسرائيل، وإن هذا الخليفة سيقتله المصريون بعد توقيع هذا الاتفاق، وهو ما وقع بالحرف.
العملية نفسها تكررت لاحقا بالجز الدؤوب لروابط الشعوب مع الأنظمة، بالأسلوب ذاته والتي أثمرت ربيعا عربيا أقحط من الخريف، بعدما أوهم فيصل القاسم تلك الحشود قبل أن يشتد عودها بألا أمل لها يرجى إلا في حزب الله وفي إيران، وبأن كل بعيد عنهما هو خائن وعميل، ما شكل نواة غضب عميق، فجره بعد مدة التراجع الكبير لنسب توظيف الشباب تحت ضغوط ارتفاع الفاتورة الطاقية، عندما بلغ النفط 150 دولارا للبرميل. هذا الخط الفتاك تعمل به تيارات اليمين واليسار بشكل أو بآخر، تأمينا للشعبية بالتماهي مع عواطف الشعوب، تيارات لا تهتم نخبها بمعادلات موازين القوة القائمة، ولا بكلفة مقارعة ملاكم هاو لملاكم محترف. وما أن تشقق الصنم الفارسي حتى استبدل بالصنم العثماني، رغم جودة علاقاته مع إسرائيل، فالمهم هو فرض سقف غير واقعي تنجذب له الشعوب والتيارات لإضعاف اللُّحمة وترك السقف الواقعي للمرحلة.
لقد شكل عبد الناصر صاحب ذلك المشروع المثل الأعلى حتى لا أقول الرب، لبومدين قبل صدام والقذافي، الذين اعتقدوا وعملوا بكل جهدهم في السياق نفسه وهو الحرب على الملكيات، ووظفوا القضية الفلسطينية للسيطرة على الجماهير، حيث قوضوا فرص بناء أوطانهم بخيراتهم النفطية، وقوضوا الفرصة الحقيقية لتصحيح موازين القوة بعرقلتهم لبناء وطن عربي متعايش ومتعاون، وقد حصدوا من زرعهم في النهاية، وأضعنا الكثير بسبب طيشهم. حتى لو قدمت الأنظمة الملكية، مهما تعددت عيوب ممارساتها، قدمت أداء أفضل مقارنة بتلك الأنظمة التي عاشت وتعيش على وهم الاكتساح والهيمنة.
اليوم، وبعد كل هذه العقود بقي الزمن متوقفا في الجزائر التي تجمد قرارها الاستراتيجي على خط واحد، حيث لا مجال لتصحيح عقارب الساعة لأجل مسايرة العصر، وتغيير قواعد اللعب.
قد يقول قائل تعليقا على خط الملكيات، ها هي طالبان تنجح في هزم الأمريكان، فالقضية هي قضية إرادة فقط. لكن عند النظر في تفاصيل الحدث، فالعملية هي تسليم غير رسمي للدولة بين الطرفين، برعاية الدوحة، تحترم بموجبه حركة طالبان الخطوط الحمراء لاستراتيجية واشنطن بالمنطقة، مع شروط تجميلية في ممارسة الحكم قد تخفف من ضغوط الرأي العام على مُوَقعِ قرار الانسحاب الذي سينال بشكله هذا أفضل صيغة لتحقيق مصالحه العليا. زيادة على ذلك سيربح سادة العالم نمو وازدهار عقلية تعتقد بقدرة قهر المقلاع للآلة، عقلية ستعشش زمنا طويلا بيننا، وستكلفنا الكثير بخلخلتها للسفينة كلما وجدت الفرصة والمجال. فجيل داعش قد ألهمته في صباه صورة بن لادن التي صورها عمالقة الإعلام بأنها بطولية، عقلية ستعرقل دوما ترتيب سلم المجد بالقفز نحو درجه الأخير والذي ندفع ثمن فشل مغامراته جميعا، بدل الأخذ بالأسباب الموضوعية والواقعية لبناء وامتلاك القوة. فقلب سلم المجد هذا الذي اختاره البعث بعد الوفد، ثم التيارات الراديكالية كل بطريقته، قد ضيع عدة عقود رجع فيها العداد إلى الخلف، بسبب محاولة الاحتيال على سنن الكون بالقفز المباشر نحو آخر درج في هذا السلم، وكأن سنن الكون هي مجرد لعبة ورق، هذا زيادة على ركوب بعضهم لهذا السلم بأفسد النزعات وبأسوأ الأخلاق، باستثناء الشعارات والخطابات التي لم يخطب بها لا الرسل ولا الأنبياء. هذا الخطاب لم يفكك أكاديميا كما يجب، ولم توضع له المنهجيات المضادة حتى في مراحل خبوه العديدة للأسف، وقد استفاد أيضا من ضعف حرية الإعلام ومن ضعف العقل النقدي، الذي تحاشت عمدا عملية بنائه كل أنظمة التعليم العربية.
لقد بنيت سردية النظام المغربي على موضوع التنمية، الذي ترسم منذ الاستقلال بكبوات وبإنجازات إلى أن قارعت مستويات العيش بالمغرب نظيرتها لدى الدول النفطية للإقليم، حيث ظل موضوع التنمية دوما هو موضوع المواضيع، في حين أن سردية النظام الجزائري وكأنها قد أسست على سطر واحد وهو العداء الوجودي للجار المغربي ولمصالحه، في سبيل ريادة الإقليم، بحكم أن عناصر الثروة المالية والبشرية الممتلكة للجزائر تسمح بتحقيق ذلك دون غيرها، ثروة تغني نظريا عن ثمار التعايش والتعاون، خصوصا وأن مثل هذا الخيار هو خيار مؤمن إيديولوجيا بنعرة عبد الناصر المجيدة، والتي حتى لو نسفها الدهر ولم ينخدع لمحاولات القفز على السنن، فقد تكون حية مع نبيذ باريس الفاخر المعتق، أو مع العجز عن ممارسة النقد الذاتي في سبيل المراجعة والتحيين.
لقد دفع الوطن العربي تكاليف فلكية وجبت دراستها بالتدقيق ووجب تبيانها للشعوب، دفع هذه التكاليف بسبب تأمين هذه النعرة ونسخها المتحورة وتبريرها لأجندات سوء الجوار ولإفساد التعايش، وسيدفع هذا الوطن العربي الكثير مستقبلا بسبب تجدد عقلية السعي لمقارعة الآلة بالمقلاع، والتي تتطوع أكبر الأجندات العالمية لتجديد تأمينها وإحيائها، جيلا بعد جيل. هذه العقلية مع هذه النعرة هما وجهان لعملة واحدة، في حين أن العدو الأول لهذه الشعوب في هذا المستوى ليس سوى الفساد والأمية داخليا، أما خارجيا فعدوها الرئيسي هو صعوبة تحقيق التعايش والانسجام، في عصر قد صار فيه العالم مجرد قرية صغيرة. حيث ضاع زمن لن يعوض وسيضيع بسبب استمرار صعوبة التعايش واحترام الاختلاف، وبسبب قلب سلم الأولويات الذي يبقى إلى اليوم غاية منى الجمهور، لرفض المنابر والتيارات المهيمنة عليه تعلم الدرس وتعليمه.