شوف تشوف

الرأي

النظام العقلي والكوني

بقلم: خالص جلبي
يتحرك الكون وفق قوانين، وهو معقد ولكنه بسيط في الوقت نفسه، فهو مركب بدقة لامتناهية، في وحدات أزلية، تكون في تراكبها مستوى جديدا من الوجود، تنظمها بدورها قوانين نوعية، وفق المستوى الجديد، في حركة تراكبية مستمرة للقوانين، تندمج في النهاية في وحدة عضوية تمضي الى أجل مسمى لها.
صاغ الدكتور (محمد كامل حسين) نظام العقل والكون لفهم ماهية المعرفة على النحو التالي: (في الكون نظام وفي العقل نظام، والمعرفة هي مطابقة هذين النظامين، والنظامان من معدن واحد، والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه، ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة، ولو لم تكن المطابقة بينهما ممكنة ما علم أحد شيئا. وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضا يحتاج إلى برهان، بل هو جوهر إمكان المعرفة، ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها، وهذا الإنكار خطأ يدل عليه ما حقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية، ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين مختلفان، ومهما تتغير المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون، فإن الحقيقة التي ثبتت ثبوتا قطعيا، هي هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل) (1).
الكون يقوم على قوانين نوعية، والإنسان يقترب من تسخير الكون وتطويعه بفهم هذه القوانين، والعلم هو هذه الحركة، فبقدر هضم وقنص واستيعاب الوجود على هذه الطريقة، يتم البناء العلمي وتتحطم الخرافة ويزول السحر والأسطوري والخلاب والغامض، ويضع الإنسان يده على طاقات الكون لخدمته مجانا.

مراتب الوجود
إذا أردنا أن نؤسس للتفكير عندنا ونقترب من فهم الكون، فهناك تدرج في قنص الحقيقة. المرتبة الأولى هي الوجود الموضوعي خارج الذهن (2)، وهي تسبح بعيدا عن كل البشر، مهما زعموا لأنفسهم السيطرة على ينابيع المعرفة. والمرتبة الثانية هي انتقال هذا الفيض الى العقل وهو العلم، ويقابله الظن، وزكى القرآن العقل والعلم وسحبهما من الظن والهوى، والمرتبة الثالثة هي نطق الإنسان بالتصورات التي تكومت داخل الذهن، وتأتي الكتابة كمرحلة رابعة أخيرة، في إنزال التصورات على شكل رسومات، كما أفعل الآن مع كلماتي هذه. ويلاحظ أن هناك تبخرا وذوبانا مستمرا مثل قطعة الثلج، وهي تمر عبر وسط حراري، مع الانتقال من مرتبة إلى أخرى، مع الزحف من حجرة معرفية الى أخرى، فتزداد ذوبانا وتفقد الحقيقة تماسكها مرة بعد أخرى. مع هذا فبدون كتابة لا توجد ذاكرة.
لا يمكن نقل المعلومات عبر الأجيال بدون ذاكرة الكتابة، ولكنها طريقة غير دقيقة، والأمان هو الجدلية المستمرة بين التصورات والواقع، فالواقع هو كلمة الله الأخيرة التي لا تتغير.
الوجود هو الحقيقة النهائية، والكون هو كلمة الله الأصلية، والقوانين المهيمنة هي كلمات الله، وهي بامتداد لا نهائي. هذه الكلمات كتبت بلغة ثابتة لا تقبل التزوير والتحوير والتبديل والإلغاء والاندثار مع امتداد الزمن. وهي خاضعة لتفسير العقل الإنساني، للاقتراب أو الابتعاد عن الصواب فيها، ولو كان البحر مدادا لكلمات الله لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.
وانعكاس الحقيقة الموضوعية على الذهن يتعلق بهذه المرآة العقلية وصفائها ولمعتها وصقلها المتواصل لاستقبال حقائق الوجود، وبقدر تشوش الذهن بقدر اضطراب قنص هذه الحقائق.
ما يدخل في العقل أو يفسره ويفهمه لا يعني أنه وضع يده على الحقيقة الحقيقية النهائية المطلقة، بل هي تفسيرات العقل وقدرة الهضم والاستيعاب عنده لا أكثر ولا أقل للوجود الخارجي.

مولد العقل الاستدلالي
كان العقل قديما يتعامل مع الوجود على أساس الخوارق وليس السنن والقوانين، ولكن مجيء الإسلام فتح العهد الجديد، واعتمد نموذج القانون (السنة) ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا، ولعل فكرة (ختم النبوة) تحمل في تضاعيفها بشكل غير مباشر هذه الفكرة، فهي كما قال الفيلسوف محمد إقبال الاحتفال بمولد العقل الاستدلالي.
جاء في كتاب «تجديد التفكير الديني»: (ينبغي أن نفهم القيمة الثقافية لإحدى الأفكار الإسلامية العظيمة، وأعني بها فكرة ختم النبوة … إن نبي الإسلام محمد (ص) يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث، فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها … ومولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي … العقل الاستدلالي الذي يجعل الإنسان سيدا لبيئته وهو أمر كسبي، فإذا حصلناه مرة واحدة وجب أن نتثبت دعائمه ونشد من أزره، وذلك بكبت أساليب المعرفة التي لا تعتمد عليه.. إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي عليه إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا الى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو … ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام، وإصراره على النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية. كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة)(3).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى