بقلم: خالص جلبي
على ما يبدو أن كل إنسان منتج فعال تصبح أخلاقه صعبة، لأنه لا يرضى دون الكمال شيئا. أما من يجمع بين العلم والتواضع فهو نبي! وهذه الخصلة، أعني دقة الأداء وعشق التنظيم والولع بالتفصيلات، موجودة في الشعب الألماني كخصلة عامة، وليس أفرادا شاذين، كما هو الحاصل عندنا. وأذكر من قرية «ليش Lich» حينما غيرت فرش سيارتي، فلما انتهى العامل من عمله قلت له: شكرا، نظر فلم يعجبه العمل، وقال: لا … بل لا بد من إعادة العمل. وهذه الخصلة عامة، سواء فيمن يركب فرش السيارة، أو من يدخل البيت لتصليح أمر ما، أو ميكانيكي يدخل السيارة، فالنظافة قطعة من العمل، فيخرج العمال من البيت كأن لم يطأه أحد! فكل عمل له أصوله من الجراحة إلى الزبالة. ويخرج عندنا عامل الميكانيك من العربة، وقد تشحمت السيارة وتبهدلت السيارة قذارة. وحين جاء مجموعة من العمال عندي في البيت في مدينة الرياض لتركيب أباجور (ريدو)، تحولت غرفة النوم إلى كارثة، من بقايا الحجارة والقذارة، فأخذت العمال على جنب وبلطف علمتهم آداب العمل، ولكن هل من سامع؟ لأن مثل هذه الأمور ليست مستحيلة، بل تحتاج آليات تدريب، فالألمان ليسوا ملائكة ونحن لسنا بالشياطين. وما ينطبق في الميكانيكا والعمل ينطبق على النشر والفكر في ألمانيا، فمجلة «دير شبيغل» الألمانية تمتاز بدقة مفرطة في معلوماتها، وفي بحث السيطرة والانصياع، أو أنفلونزا الخنازير، جلس عشرة من الباحثين لإنتاج البحث، سواء في الطب والمرض، أو الفكر والأمراض الاجتماعية.
ولأنني اشتركت فيها ولعشرات السنوات، فأنا أقرأها بشغف ودقة، متتبعا أحدث أدوات الإنتاج المعرفي. والمشكلة التي تواجهني دوما، أن هذه المجلة أصبحت موردا لتصيد المراقبة، فيصادرون العدد بدعوى الرقابة، وحاليا أرسل إلي صهري من أمريكا عن طريق البريد السريع من الأمازون عبر شركة «UPS» طردا أنا بأمس الحاجة إليه من هارد ديسك حجم 8 تيرا، كي أخزن فيه حلقاتي من رحلتي في الطب والفكر، كانت النتيجة أنه وصل في يومين إلى المغرب، وأنا أنتظر تسلمه منذ شهرين، لأنه يعس على ظهور الجمال، طالما دخل العالم العربي، أما في السعودية، حيث كنت فلا تسأل حين كنت أنتظر مجلة «دير شبيغل»، وأنا لا أصدق لأنها مجلة خاصة، وأشعر بغاية الضيق ممن يحشر أنفه في موضوع خاص، ويفرض علي وصاية أخلاقية، ولكن هذا هو العالم العربي، فهم ينتجون، ونحن ممن يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وكنت في حيرة معهم بعد أن لم تصلني من أعداد المجلة سوى ستة أعداد العام في أحد الأعوام من أصل 22 عددا، فلم يبق أمامي إلا دفعها في طريق الأمان لتصل أرض كندا، ومنها بطرقي الخاصة آتي بها من على ظهر المحيط الأطلسي، فهل يصدق ما لا يجب تصديقه؟ قلت للمجلة اليوم بالنت: انتظروا شهرا وأرسلوها بالمسجل إلى صندوق بريدي، لننتظر ماذا يفعلون. ولكن مع كتابة هذه الأسطر فقد حصل الشيء المتوقع، والذي يجب أن يحصل في حصول الجنون المضاد أمام الجنون الديني في السعودية. كل هذا الكلام الذي جعلني أسوقه يوما عن حادثة مصرع الحريري، التي أثارتها مجلة «دير شبيغل»، فأقول لمن حولي وهم يسألون: لقد تورطت يوما مجلة «الشبيغل» في نشر مذكرات مزعومة لهتلر، ليثبت أنها كاذبة، فهي ليست معصومة، ولكنني ما زلت أذكر وأنا أعرض على زوجتي ـ رحمها الله ـ عن عنوان فرعي يستعرض الجيش العراقي، قبل الغزو بشهر! وتحته بالحرف الواحد أن العراق يتدرب لالتهام الكويت. وهكذا فليس مثل الوعي نورا، والمعلومات الخاطئة تكون أحيانا رصاصات قاتلات، أو منجيات المؤمنين ممن نجوا. ويجب النظر إلى الخبر كما قال ابن خلدون، أن يمرر بفلترة خاصة؛ فالأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والذاهب بالحاضر، فلا يأمن فيها الإنسان من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق! وهو ما حصل لكثير من أئمة النقل والتفسير. وهكذا فالرجل وقف بالمرصاد أمام عقليات علمية ليست بالسهلة والصغيرة، وأعتبر أن هذا يمكن أن يحدث لفطاحلة في الفقه والتفسير. وهذا التحليل ليس إدانة لطرف ولا تزكية لطرف، بل هو محاولة تبين الحقيقة التي نقترب ونبتعد عنها، بقدر التحليل والتعب والدأب ودسامة المعلومات وعمق التحليل. وطبيعة العقل العلمي هي التي فتحت منافذ الفهم، وهذا هو الإيمان، فمن قتل الحريري أو من قبله كينيدي إذن؟ هل كما ذكرت المجلة أو أصابع كثيرة؟ بل نراجع أحداثا جللا في التاريخ، فمن قتل الرئيس الأمريكي كينيدي الذي لم تحدد هوية القاتل فيه؟ بل حتى السؤال الأعظم عن كارثة البرجين، التي ربما يكشف الستار عنها بعد قرن؟ وأنا شخصيا حاولت وضع مقالة عن المذبحة التي قام بها الضابط الأمريكي ذو الرأس الأسود (شفارتس كوبف = شفارتس بالألمانية أسود Schwartz ، أما الكوبف فهو الرأس Kopf)، في منطقة المطلع، مع هرب القوات العراقية، فتتبعهم وأهلك منهم عشرات الآلاف وهم في عرباتهم، فاحترقوا شويا لظى نزاعة للشوى من أدبر وتولى وجمع فأوعى. ولكنها لم تنشر إلا بعد مرور عشرات السنوات، حيث فقدت كل حرارة الخبر. ولكن مع أحداث غزة أمكن للعالم أن يرى الجندي الأمريكي أرون شنوبل، وهو يحرق نفسه أمام سفارة بني صهيون، احتجاجا على الإبادة بالقتل والتجويع.
إن الطب يدخلنا منهج العلم ويقول؛ دوما هناك تشابك من ضفيرة كبيرة من العناصر، ولكن أهم ما فيها ليس العناصر الخارجية، بل الداخلية. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
نافذة:
النظافة قطعة من العمل فيخرج العمال من البيت كأن لم يطأه أحد فكل عمل له أصوله من الجراحة إلى الزبالة