المولى عبد السلام بن مشيش.. المحبُ المقتول!
الشيخ المولى عبد السلام بن مشيش يعد رافداً مهماً للتصوف العملي بالغرب الإسلامي،كانت وفاته على الأرجح عام625ه بعد أن عاش ثلاثاً وستين سنة. ورغم الصورة المبتذلة التي تحاول بعض الأقلام أن ترسمها لحياة الشيخ أو لأغلب المتصوفة، كونها حياة فرار من المجتمع، تنبني على العزلة عن الناس والإحساس بقضاياهم الإنسانية؛ حيث اتخذ المولى عبد السلام بن مشيش من «جبل العَلَمْ» مكاناً للتعبّد والتأمل، فإنه لا يمكننا أن نغامر بتأكيد ما رسموه، خصوصاً وأنّ الرجل تشهد له بعض الوثائق التاريخية على انخراطه في صميم الهم السياسي والاجتماعي والتربوي الذي كانت تمرّ منه البلاد والعالم الإسلامي. ولا أدلّ على ذلك من جريمة قتله، إذ كيف يعقل أن يقتل رجل اتخذ من مكان بعيد، في أعلى قمة في الجبل، مسكناً، أن يحاربه مجرم اسمه ابن أبي الطواجن (ت625هـ) الذي ادعى أنه كل ما ينتظره الناس من خير!
لو لم يكن للقوم دور فما حاجة لقتل فيه المتنافسين على السلطة؟ وهنا على الباحث أن يفهم جيداً دور هؤلاء الرجال الذين قلّما يجود بهم الزمن، إذ يحدد دورهم في المحافظة على أمن واستقرار البلاد ضد الفتنة والكراهية والقتل، ومن جهة أخرى الدور العلمي والرّوحي في تكوين الأجيال المتعطشة للمعرفة والعرفان، ولا أدلّ على أهمية هذا الدور من الأفواج التي تخرجت من مساجد المداشر المحيطة بالقبائل الغمارية والهبطية بشمال المغرب.
هذا الدور لكبار الشخصيات الروحية بشمال المغرب يمكن أن ندركه من خلال الوصايا التي بثها المولى عبد السلام في مريديه، ومنها وصيته التي يقول فيها: «وإن عبادة الله التفكر في أمر الله، والتفقه في دين الله، ورأس العبادة الزهد في الدنيا.. وإن كنتم مرضى فاستشفوا واسترقوا بالعلماء واختاروا منهم الأتقياء الهداة المتوكلين على الله». هذا خطاب لا يمكن أن يوجهه الرّجل إلا لسائل يسأل عن منهج العبادة وطريق السلوك إلى الله والشفاء من كدورات النفس وظلمانيتها، على ألا يفهم بالاستشفاء بالعلماء المعنى الظاهر الذي قد يبدو للوهلة الأولى، وإنما المقصود هناك ما يحمله العلماء الربانيون المتوكلون على الله، من علم ومعرفة علمية دينية تساعد المريدين أو الطلبة على مجاهدة النفس من أجل تحصيل أعز ما يطلب ونيل نبل المقاصد.
يبدو جلياً في مجمل الوصايا التي رواها تلميذه الشيخ أبو الحسن الشاذلي عن تعاليم الشيخ ومنهجه التربوي، أنه كلما قصده مريد طالباً النصيحة،كان يوصيه بشيئين: محبة الله ورسوله، ومحبة العلم والعلماء، فهل لهذه المحبة رؤية فلسفية؟
يقول عبد السلام بن مشيش عن قلب من أحب الله: «يكشف له من جماله وقدس كمال جلاله تعالى، وشراب المحبة مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، ويتسع فيه النظر لمن شاء الله عز وجلّ. والشرب سقي القلوب، والأوصال والعروق من هذا الشراب، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب، والتهذيب بعد التهذيب، فيسقى كل على قدره، فمنهم من يسقى بغير وساطة، والله يتولى ذلك، ومنهم من يسقى من جهة الوسائط، كالملائكة والعلماء، والأكابر من المقربين..». فبالمحبة إذن يكشف للسالك جمال الذات، ويشرب من ماء المحبة حتى يسكر، فيغيب عن الخلق ويحضر مع الحق تعالى، ليس حضوراً مادياً كما قد يفهمه بعض الناس، وإنما حضوراً قلبياً، أن يكون ذكر الله في قلبك مهما كان حالك في عالمك، أي لا يشغلنّ عنك الله أحد. وفي سياق هذا المعنى قال أبو الحسن الشاذلي: «سألت أستاذي رحمه الله – يقصد الشيخ عبد السلام بن مشيش – عن ورد المتقين، فقال: عليك بإسقاط الهوى ومحبة المولى وآية المحبة ألا يشتغل المحب بغير محبوبه».
ولا يمكن أن نتحدث عن الشيخ عبد السلام دون أن نذكر تصليته المعروفة عند كل سالك باسم «الصلاة المشيشية»، والتي مطلعها «اللهم صلّ على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار»، وهي الورد الوحيد الذي تركه لنا الشيخ، والتي خصها المتصوفة بعنايتهم وشرحهم، من هؤلاء نذكر على سبيل المثال الشيخ أحمد بن عجيبة، الذي قال في المقطع السابق إن نور النبي صلى الله عليه وسلم «بذرة الوجود، والسبب في كلّ موجود»، فافهم!
ومات الشيخ عبد السلام بن مشيش مقتولا، قتلته عصابة ابن أبي الطواجن بالقرب من مقام خلوته بجبل العلم، بسبب النشاط الذي كان الشيخ يقوم به في مجال الدعوة والإصلاح، ولالتفاف الناس حوله. وكان ابن أبي الطواجن هذا قد ثار في البلاد الغمارية واشتهر بالسحر والشعوذة، فسولت له نفسه أنه لا ينتشر في البلاد إلا بقتل الشيخ، فدس له جماعة من المرتزقة قرب عين بالجبل المذكور، فلما توضأ منها، يقول الناصري: «ولى راجعاً إلى محل عبادته، وارتقاب فجره، فعدوا عليه وقتلوه. ومن الشائع أنه ألقيَ عليهم ضباب كثيف فأضلهم عن الطريق ودفعوا إلى شواهق من الجبل فتردوا منها إلى مهاوي سحيقة تمزقت فيها أشلاؤهم ولم يعثر لهم على خبر». وكذلك هي لحوم الصالحين.. مسمومة!