فهد بن سليمان الشقيران
كلما تجددت الصراعات داخل المجتمع أنتجت ترسانة من الأفكار والتحليلات والتأويلات، والصراعات تطلق الموضة داخل المجتمع كالرصاصة، ثم تتقبلها جيوش البشر بنفوس مطمئنة، ليزداد مستوى التمايز، وهذه إحدى الحالات التي جددتها نماذج رأس المال.
والموضة في المجتمع تخلق مجموعة من الصراعات الرمزية بين المستهلكين، والحرص على إبراز توقيعات الماركة أو اسمها أو رمزها، مثل إطلاق سلاح لإثبات الذات، أو الإعلان عن الحضور، لهذا ليس مستغربا أن تكون حالات الاستهلاك الوقتي لمنتجات الموضة ضمن البحوث والتحليلات الفلسفية.
من بين من حضرت الماركة والموضة والأزياء في تحليلاته الفلسفية أو السوسيولوجية «بيار بورديو»، الذي أعلن في 1976 فشل مصمم الأزياء الفرنسي بيير كاردان، حين أراد أن ينقل إلى بيوت الثقافة الراقية رأسمالا متراكما داخل دور الأزياء العالمية.
إن مُنْتَج الموضة ليس وسيلة غرَضية يستعان بها على ستر الجسد، أو حماية الرجلين، أو ارتداء الساعة لضبط الوقت، أخذ المنتج أهدافه الغامضة والواضحة، ذلك أنه وبالتحالف مع «الإلحاح الإعلاني» تمكن بشراسة من قلب المجتمع وترميزه. وإذا كانت الحروب الدموية التي عصفت بالعالم، خلال القرون الماضية، قد استبدلت بالحروب الرمزية في الرياضة والسينما، فإن الموضة تكون – أحيانا – البديل عن الانتقاص اللفظي للآخر من الطبقة الأقل المجرّم قانونا، من هنا تأتي الموضة بكل جمالها وسحرها كبديل أخلاقي للفرز الطبقي الاجتماعي العلني.
وبالعودة إلى «بورديو»، فإنه حين كتب في 1974 بحثه: «دور الأزياء والثقافة» حذر من أن يُقْرأ هذا البحث على أنه «مزحة»، بل ورأى أن: «الموضة موضوع ذو حظوة كبيرة في التقليد السوسيولوجي». وينطلق من درس «بارمنيدس» القديم، إذ «ينص على أن هناك أفكارا لكل الأشياء، ومن ضمنها القذارة وشعر الجسم لم يحظ إلا قليلا باهتمام الفلاسفة».
الأفكار الكامنة في الظواهر والأشياء هي التي ترصد من الناقد والملاحظ والقارئ للمجتمع. والموضة بكل سطوتها وسلطانها الرمزي، الأكثر حضورا في الصراعات الرمزية بين المجتمع، وهو صراع غلافه جمالي على عكس الصراعات الرمزية، التي تطلق من سلاح الهوية أو منطق العرق، أو استئصالية السلاح، كما أن الموضة في بعض وجوهها هي «ذوق رفيع»، حين تناقش خارج حقل السلعية المالية والاستهلاكية الاجتماعية، ويربط بورديو بين: «تماثل البنية بين حقل إنتاج هذه الفئة الخاصة من سلع الترف، أي سلع الموضة وحقل إنتاج الفئة الأخرى من سلع الترف هذه، ألا وهي السلع الثقافية الشرعية مثل الموسيقى والشعر والفلسفة».
وبقدر ما تكون الموضة حقلا يضم الكثير من التناقضات والمفاعيل الطارئة والأصلية في المجتمع، بقدر ما تؤسس لشبكة من العلاقات بين أفراد المجتمع وبين الأذواق والخيارات التي يطلبها الناس في حياتهم ويومياتهم.. والاتجاهات الفلسفية التي أعقبت النظريات الكلية، بدءا بالوجودية، ثم البنيوية، وصولا إلى فلسفات الاختلاف، ونقض المعنى، وتفكيك النظرية، ونقد النقد، واستبدال المركز بظله.. كل تلك الموجات قرنت بموضات أو وصفت بأنها موضات، حتى أن الجيل الوجودي الشاب بفرنسا آنذاك أطلق ترسانة من المطالبات والأشكال والألوان التي تُرتدى في المقاهي والطرقات.
تفرعت الموضة عن موضات استبدل «الذوق الرفيع» بالاستهلاك المحض، ونزعت الماركة من تاريخها وصاحبها، لتكون ضمن مصانع ووكالات تدير هذا التوقيع وتخضعه للإعادة والتدوير. وفقدت الموضة قوتها في تكوين شبكة من العلاقات الجديدة، ومن تطوير الذوق الاجتماعي الجمالي العام.