الموت الأسود (1)
خالص جلبي
في مسلسل السلطان عبد الحميد يكشف الغطاء عن حرب خفية سلطت على الدولة العثمانية من أعدائها، منها الحرب البكترولوجية، بدس جرثومة الطاعون في طعام الأطفال، وتفشيه في الحرم السلطاني، وهو الكابوس الأعظم في التاريخ، ولعل الكثيرين لايعرفون عن طبيعة هذا المرض شيئا، ونحن في الواقع ندين بحياتنا للتطور الطبي منذ ستينات القرن العشرين، حيث ولدت ظاهرة (Baby Boom) أي فائض الولادات وأنا منهم، وهي حاليا نهاية الرحلة لذلك الجيل؛ فهم اليوم عجائز يمشون بالكاد على أقدامهم. سنة الله في خلقه. سألت والدي يوما عن كثرة الولادات قال هو مثل المطر والأفضل للأم أن تلد الكثير لأن معظمهم سيموت! قالت جدتي (ماما ريا) أنها أنجبت عشرا فلم يبق إلا توفيق والدي! ولكن بفعل تطور الرعاية الصحية لم يبق الأولاد مثل المطر تحصد الأمراض معظمهم؛ بل أحياء يرزقون، وعبئا على الأب الكادح. لقد رزق والدي تسع بنين بين ذكور ستة وأناث ثلاثة ولم يمت أحد منهم. ولذا فنظرة خلفية إلى التاريخ مفيدة، وهو ماحرك في ذهني أن أنفح قرائي بنظرة من التاريخ عن طبيعة الموت الأسود الطاعون بل رعب التاريخ والأمراض التي سادته، والحروب التي حصدته، والمعاناة الرهيبة لأجيال لاتحصى.
بقي مرض الطاعون كابوساً مرعباً في الذاكرة الجماعية للجنس البشري، فلم يحصد مرضٌ عدداً من البشر مثل الطاعون، فهو الذي قوض دولاً بكاملها، وأفنى شعوباً بأسرها، ومسح مدناً من وجه الأرض، وصدع حضارات عظيمة، وبقي الناس يتذكرونه وهم يرتجفون من هول الفزع، وحَسِب الناس أن هذا المرض المرعب أصبح في كتب التاريخ نسياً منسياً، ولكن قبل فترة طار إلينا الخبر من الهند تحمل معها نبأ قيام هذا الغول من مرقده التاريخي، في وقت تحولت فيه الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة تنتشر فيها الأخبار بسرعة الضوء ويسافر فيه الناس قريباً من سرعة الصوت.
والآن ما المرعب في هذا المرض؟ ماهي قصته التاريخية؟ ماهي إنجازات الطب في التصدي له؟ بل ماهي فلسفة انتشار المرض عموماً؟ ولماذا تقفز أمراضاً إلى الواجهة بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً مثل الأمراض الجنسية في الافرنجي والايدز؟
دعنا نتأمل المرض خارج حلقة التهويل ودائرة الفزع، بعد أن اقترب الطب الحديث من حافة سر السرطان ولغز الجينات والجراحة عن بعد.
في صيف عام 1992 م كنت في زيارة لمتحف اللوفر بباريس مع صديق لي، وفي إحدى القاعات جمدنا أمام لوحة ضخمة جداً، رائعة الجمال. بديعة الألوان. لمرضى يموتون في شر حال وأسوء مصير، وعندما ازددنا فيها تحديقاً هتف زميلي الدكتور نبيل قائلاً: إنه الموت الأسود .. (الطاعون PLAGUE) !! .
كانت اللوحة أكثر من رائعة، تجلت فيها عبقرية الرسام بألوانٍ ثابتة لم تؤثر فيها بعد يد الزمن، تناثر فيها مرضى (الطاعون) في قاعة كبيرة بين مفارق للحياة، وآخر مستسلم لمصيره ينازع في سكرات الموت مربد الوجه قاتم الجلد من معاناة (الموت الأسود)، وثالث شاحب الوجه ممتقع القسمات مدَّ يده يطلب العون ومامن معين! في حين وقف القائد الفرنسي (نابليون بونابرت) بين جنوده في مستشفى (يافا) مقطب الجبين، عابس الوجه، خائر القوى، فاتر الهمة قد ركبه الهم وعلاه الإحباط واستولى عليه اليأس.
هذه اللوحة تنقل منظراً بسيطاً وفصلاً لايستهان به من منجل الموت الذي كان يحصد به مرض (الطاعون) حينما ينتشر سواء في المدن أو الحملات العسكرية وعقابيل الحروب الدموية الرهيبة. لقد دمر الطاعون دولاً وأباد شعوباً ونكس حضارات وهزم لوحده حملات عسكرية جبارة يقودها عسكريون محنكون لم تنفعهم حنكتهم في مواجهة هذا (الجنرال) المخيف: الموت الأسود (الطاعون) !!.
وقف ( الجزاَّر ) حاكم عكا (ويراجع في هذا كتاتب تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي جزء 2 ص 288 دار الجيل بيروت ـ عن كتب بونابرت لأهل مصر عن سبب رجوعه عن حصار عكا ) من فوق أسوار مدينته يضحك ملء شدقيه على نابوليون وهو يجرجر ذيول الهزيمة، بعد أن كان يطمح في تناول لؤلؤة الشرق بيده (القسطنطينية) فنابوليون كان يرى أن (استانبول = القسطنطينية) تصلح أن تكون عاصمة العالم الذي يطمع أن يعتلي عرشه، هذه المرة كان الجنرال (طاعون) بجانب حاكم عكا (الجزار) كما كان الجنرال (شتاء) بجانب الروس في هزيمة نابوليون على أبواب موسكو بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً (عام 1812م) (انسحب نابوليون من عكا في 20\5\1799م كما انسحب من موسكو في 19 \ اكتوبر من عام 1812م ) ويخبرنا التاريخ أن بونابرت بعد أن استولى على مصر في نهاية القرن الثامن عشر (1798م) تحرك نحو بلاد الشام في حملة عسكرية جديدة؛ فاستولى على يافا، وتابع طريقه إلى عكا، حيث حاصرها شهرين بدون جدوى، ثم بدأ الطاعون يفتك بجيشه العرمرم فولى مدبراً ولم يعقب، وتنقل لنا كتب التاريخ هذه الفقرة:(وجاء الجيش الفرنسوي إلى بلاد الشام بجراثيم الطاعون فانتشرت فيها واستفحل أمرها في حصار يافا. ووصل بونابرت في 16 مارس (1799م) إلى مدينة عكا فلقي فيها مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها، وجرح الجنرال كافارلي جرحاً مميتً فطلب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تتلى على مسامعه المقدمة التي كتبها (فولتير) لكتاب (روح الشرائع) فاستغرب القائد الأكبر هذا الطلب! وبعد حصار دام شهرين رأى بونابرت عدد جيشه يقل شيئاً فشيئاً من جراء اشتداد الطاعون عليه وفتكه به فتكاً ذريعاً. حينئذ صمم على العودة إلى مصر بعد أن تقلص ظل المقاصد الواسعة التي كانت تجول في فناء جنانه، وتدور رحاها على قطب الشؤون الشرقية وتجعله يتنقل بالفكر من ضفاف السند إلى شواطيء البوسفور وقد قال فيما بعد:(لو سقطت عكا لغيرتُ وجه العالم، فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة) .