شوف تشوف

الرأي

المواطنة: الولاء وجدلية الحق والواجب

عبد الإله بلقزيز
تتميز الدولة الحديثة من الدولة التقليدية بكونها دولة مواطنين لا دولة رعية. صحيح أن المواطنين، في أي دولة من دول العالم، هم رعايا sujets دولتهم، ولكن ذلك يكون – حصرا- في علاقة دولتهم بغيرها من الدول؛ حيث يتعلق الأمر بنسبهم إليها وإلى سيادتها ومنظومة قوانينها وبرعايتها مصالحهم.
أما في علاقتها بهم فهم، بالنسبة إليها، مواطنوها ولا شيء غير ذلك. بل ما من وجود لدولة يصْدُق عليها وصف الدولة الحديثة لا تكون دولةَ مواطنين؛ لأن المواطنين أولا شرط لحداثتها التي لا تقبل الوجود والقيام، فيما المنتسبون إليها محض رعية.
المواطنة، بهذا المعنى، علاقة سياسية حاكمة لنظام الاجتماع السياسي. من تبدياتها الكبرى علاقة الولاء: ولاء المواطنين لدولتهم. والولاء هذا لا يُكتفى بالتعبير اللفظي عنه، بل يُستدل على استتباب أمره بتبعية هؤلاء المواطنين لسيادة الدولة وخضوعهم الإرادي لقوانينها. ولا إمكان لتحقق هذا الولاء إلا من طريق تمتين الدولة وتشريعاتها لروابط الانتماء الوطني الجمعي، وإصابة النجاح الكافي في مضمار تحقيق الاندماج الاجتماعي بالوسائل كافة التي تتيح صهر قوى المجتمع قاطبة في بنية عليا جامعة (الشعب أو الأمة).
على أن عملية تصنيع الانصهار والاندماج الاجتماعيين، التي تقودها الدولة بغية تفكيك روابط العصبيات الأهلية التقليدية أو، على الأقل، الحد من مفعول تأثيراتها في الناس، لا تكفي وحدها كي تُنجز هذا المسعى التوحيدي إن لم يبذل الناس أنفسهم جهدا حقيقيا على طريق التحرر من أرباق العلاقات العصبوية، والخروج من حال الانقفال الذاتي في أقفاصها. أن يَعْصَوْصِبَ الناس حول «هوياتهم» الفرعية وجماعاتها الأهلية وعلاقات النسب والجوار وسواها، فذلك مما يدخل في نظام العلاقات الطبيعية. أما علاقة الانتماء إلى الدولة والولاء لها فهي، بالتعريف، علاقة سياسية ترتفع بالمرء من مرتبة ذرة Atome في جماعة إلى مرتبة المواطن، وترتفع بالجماعات من مستوى القبيل والعشير والعائلة والطائفة إلى مستوى الشعب، كما ترتفع بالولاء من درجة الولاء الأهلي العصبوي إلى الولاء الوطني. وعلى ذلك، ينبغي الانتباه إلى أن صناعةَ وطن ليست شأنا تنهض بأمره الدولة وحدها، بل هو شراكة بين الدولة والمجتمع على السواء.
وبقدر ما تُولد علاقة الولاء منظومةَ الواجبات في الدولة الحديثة، بما هي تعبير عن ولاية الدولة على مواطنيها وتبعية هؤلاء إليها (= واجب احترام سيادة الدولة واستقرارها والسلم المدنية، والتزام قوانينها، ودفع الضرائب المستحقة، وواجب الدفاع عنها إن تعرضت للأخطار…)، كذلك تُولد منظومةَ الحقوق: الحقوق المدنية والحقوق السياسية على السواء. وفي هذا تتميز الدولة الحديثة من الدولة التقليدية. لم تكن هذه الأخيرة تلحظ لرعيتها من شيء سوى وجوب أداء الواجبات تجاه الدولة؛ فالدولة لا تدين لها بشيء فعلي سوى تحقيق الأمن: الاجتماعي والخارجي. ولذلك كان يمكنها أن تسن من الضرائب ما يسد حاجتها من الجباية غير آبهة لأثقال ذلك على الرعية؛ وكان يسعها أن تفرض على الناس السخرة من غير حقوق أو تعويض؛ فالمجتمع كان – في حينها- في خدمة الدولة لا العكس. وكم كان ثمن ذلك باهظا على الدولة نفسها: ثورانا وفتنا وتمردات وعدم استقرار مديد في الزمان.
العلاقة بين منظومة الواجبات ومنظومة الحقوق، في الدولة الحديثة، تختلف تماما عما كانته قبلها؛ إنها علاقة تناظر وتكافؤ لا اختلال فيها. هكذا استقامت المعادلة بينهما على نحو يقبل تعريف منطقها كالتالي: يؤدي المواطنون واجباتهم تجاه الدولة لأن الدولة تمتعهم بحقوقهم مقابل تأديتهم واجباتهم تلك؛ أو إن الحقوق التي يتمتع بها المواطنون في الدولة تفرض عليهم أداء واجباتهم تجاهها. لا يمكن فهم هذا المنطق التلازمي، على التحقيق، إلا متى أدركنا أن الحق واجب والواجب حق. ما لم نرفع الواجب إلى مستوى الحق، وما لم ترفع الدولة الحق إلى مستوى الواجب، لن نصل إلى المعنى العميق للدولة الحديثة وللمواطنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى