شوف تشوف

الرأيالرئيسية

«المواطنة الكونية» المزعومة

عبد الإله بلقزيز

 

يقدم خطاب حقوق الإنسان نفسه – في هذا الطور العولمي الراهن منه – في صورةِ دعوة إلى بنية من الانتماء عليا جديدة وغير مسبوقة هي الكونية.

هذا ما يفسر ترويجه الكثيف لفكرةِ مواطنة أشمل من مواطنة الدولة الوطنية وبديل منها هي «المواطنةِ الكونية». وما من شك في أن الفكرة جذابة، وفي أن ملايين الناس حلموا بها وسكنت آمالهم، خاصة أولئك الذين لا حقوق لهم في أوطانهم، أو الذين هُم في حكم ذوي الحقوق المنقوصة. بل لا شك في أن كبار المفكرين والفلاسفة حلموا بها، وبعضهم نظر لها مثل إيمانويل كنْت في نهاية القرن الثامن عشر. ولكن ما أوْسع الفارق بين ما يلهج به دعاتُها من كلام عليها وما تُفصِح عنه السياسات الواقعية القائمة من تجاف تام مع منطق الدعوة تلك، لئلا نقول من تجديف ضد تيار إمكانها!

نعم، في وسع أي كان في هذا العالم أن يقف، بالمعاينة المباشرة، على ما يُضْمِرهُ القولُ بهذه الدعوة من مفارقة صارخة. مكْمن المفارقة فيها في أن القائلين بها في الغرب يتناسون أنها لا تستقيم مع سيادة سياسات قومية مغلقة تُطبق في دول العالم كلها، باسم حماية الأمن القومي، وتمْنع  إمكان التنقل الحُر للأفراد بين الدول، وتتشدد في إجراءات فرض التأشيرات وتقنين أعداد من يحِق لهم الحصول عليها، ناهيك بسياسات الهجرة واستقبال المهاجرين، التي تسُنها الدول الغربية وتطبقها بصرامة ضد المهاجرين أو طالبي الهجرة، والتي أغلقتِ المنافذ أمام أرزاق الملايين من أبناء الجنوب، في الوقت عينه الذي لجأت فيه إلى إجراءات انتقائية بحيث لم تعد تفتح كُواها الضيقة إلا في وجْه الكفاءات العلمية العالية التي لم تجد لنفسها بنيات الاستقبال المناسبة في بلدانها. هذا، طبعا، من غير حاجة إلى أن نتحدث عن تشدد الدول الكبرى في سياساتها القومية المغلقة التي تصنع بها العوازل بينها والعالم؛ خاصة عالم الجنوب.

هذه جميعُها تنهض قرينة على زيف الدعوة إلى «مواطنة كونية» من دول غربية ما تزيد إلا إمعانا في التشرنُق على الذات، وفي الانكفاء إلى الداخل القومي. إن الدعوة هذه – شأن نظيرات لها في الغرب – ستظل، ولآماد طويلة، محض أُزعومة لا دليل عليها من الواقع الفعلي، وورقة للاستهلاك السياسي والإعلامي، كما للتغطية على إرادة محْو نظام المواطنة وأُطُرِه الحاضنة: الدولة الوطنية والسيادة الوطنية. وما أغنانا عن القول إن الدولة الوطنية المستهْدفة بسياسات التدمير والمحْو ليست تلك القائمة في بلدان الغرب – بدليل ما ذكرناه – وإنما تلك التي تقوم في بلدان الجنوب.

ليس من مخْرج من هذا النفق المُنْسد، الذي أُدخِلتْ فيه المواطنة والدولة الوطنية والسيادة، إلا بالعودة عن الذهاب في مجاهله والأوْبةِ إلى هذه المبادئ والمؤسسات من أجل تعهدها بالمزيد من الصيانة والرعاية والتطوير بدلا من التيه في مجاهلِ فرضية مكذوبة أو – عند إحسان الظن – لا دليل عليها من معطيات الواقع الموضوعي للعلاقات والسياسات والتوازنات. وهو مخْرجٌ لأن النفق هذا، الذي أنتجته السياسات الغربية الانغلاقية، لا يتبين في آخرِه ضوءٌ مصنوعٌ من مزاعم. ولما كان من المستحيل أن تُغير دول الغرب سياساتها فتخرج من الانغلاق إلى الانفتاح ومن الإطار المرجعي القومي إلى الكونية، فلا أقل من استنقاذ ما هو في حُكم المستهدف بالتبديد: الدولة الوطنية ومنظومة المواطنة فيها.

لا نُدْحة لنا، إذن، عن الانصراف إلى التشبث بمنظومة المواطنة وتطويرها واستكمال ما لم يقع تحقيقُه منها حتى الآن؛ إذْ هي وحدها المعول عليها لتمتيعنا بوجودنا الإنساني المشرف والكريم داخل أوطاننا.  فلْنتمسكْ، إذن، بإطار الدولة الوطنية وبسيادتها لأنها وحدها المعتصم الذي يُلاذُ به؛ ولْنُدافعْها ضد كل ما يتهددها من أخطار التفكيك والتفتيت والمحْو الداهمة.  لنتذكر، على الأقل، أنها كانت – من دون سواها – الموئل والملاذ لجميع أبنائها حين داهمتْهُم محنة وباء كورونا، وأقامت لهم من سيرتها في جبْه الوباء دليلا ماديا فاقعا على اقتدارها ونجاعتها في كف مخاطر الوباء اللعين على المجتمع والناس والحياة. فعلتِ الدول الوطنية ذلك، بهمة استثنائية، في كل مكان من العالم فيما كانت مؤسسات «المجتمع الدولي» مشلولة تُحملق ببلاهة! هل ننسى كيف تبخرتِ «الكونية»، فجأة، حينها فانكفأ كل إلى داخله يُغلق عليه. حتى أولئك «المتنازلون»، جزئيا، عن بعضِ سياداتهم والملتئمون في اتحادات كبرى – من طراز «الاتحاد الأوروبي»- أداروا ظهورهم إلى بعضهم، وبلعُوا مفردات الشراكة والتعاون والتضامن لائذين بما لدى الواحد منهم من مقدرات قومية يسخرِها لمغالبة محنته.

الدولة الوطنية، إذن، لا الفكرةُ الكونية منِ انتصر في واحد من أخطر تلك الامتحانات الوجودية المعاصرة (امتحان الوباء)، فكان انتصارُها دليل حاجتنا الماسة إليها وإلى أدوارها في صناعة التنمية الإنسانية والأمن، وصوْن الحقوق والحريات، وحماية السلم المدنية..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى