يونس جنوحي
لم نعد نسمعُ كثيرا عن الثنائيات في عالم الفرجة، وحتى إن وُجدت فإنها لا تصل إلى درجة الشهرة التي بلغها الأولون، ممن أسسوا لما يُسمى الآن «صناعة الترفيه».
السخرية أصبحت سطحية في الدراما، وحتى في العروض. ففي زمن «حذفته الرقابة» كان منسوب السخرية عاليا، بينما الآن في زمن وسائط التواصل وتطور المعلوميات صارت السخرية سطحية، ولا تُضحك بالكلمة والاستعارة، وإنما بالاستعراض.
لكن كل هذا لا يمنع من القول إننا في المغرب كنا سباقين إلى تأسيس الفرجة، مقارنة مع دول أخرى إسلامية وعربية.
ففي الوقت الذي كان فيه العسكري الفرنسي «فيليكس موغا» يبحث عن اليد العاملة في جنوب المغرب، لسد الخصاص في حفر المناجم والتنقيب عن المعادن تحت الأرض، بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الحملة الفرنسية التي استمرت حتى بعد الاستقلال، كانت هناك هجرة أخرى لم يُسلط عليها الضوء، تتعلق بهجرة العمال المغاربة للعمل في مجال الاستعراض. ولكن ليس لتقديم العروض الفنية أو ملاعبة الفيلة وترويض الأسود أمام المشاهدين، وإنما للاشتغال في الأعمال الشاقة، نصب خيمة السيرك الكبيرة في الظروف المناخية الصعبة والاعتناء بالخيول وبقية الحيوانات الضارية، التي لا تفرق بين كتف خروف وكتف العامل المكلف بنقل الطعام إلى الأقفاص.
هؤلاء المغاربة، حسب معطيات تاريخية مؤكدة، بدؤوا الهجرة نحو شركات السيرك الأوروبية، خصوصا في ألمانيا، منذ سنة 1912، وما زالت هجرتهم مستمرة رغم تغيير الظروف الاقتصادية وقوانين الهجرة والشغل في دول الاتحاد الأوروبي. لكن سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي شكلت ذروة الإقبال على العمال المغاربة، الذين صرفوا أموال عائلاتهم وغرقوا في الديون، مقابل الحصول على عقد عمل في السيرك. وانتقلوا من جو المغرب المعتدل للعمل في ظروف صعبة، مباشرة بعد النزول من الطائرة في درجات حرارة تحت الصفر.
وهؤلاء العمال المغاربة كانوا فعلا يعيشون فوق تراب دول الاتحاد الأوروبي، لكن خارج قانونها. إذ إن بعض العمال تاجروا في عقود العمل، وهو ما يمنعه القانون ويعرض صاحبه للعقاب، لكن رغم ذلك فإن الناس صرفوا ملايين السنتيمات للحصول على عقود عمل مؤقتة لدى شركات السيرك، وبمجرد وصولهم إلى أوروبا بأشهر استغنت شركات السيرك عن خدماتهم. وهذا المعطى جعل هؤلاء العمال القادمين من مختلف مناطق المغرب شماله وجنوبه، يتقاضون أجورا هزيلة نزلت قيمتها بأكثر من النصف. والسبب أن أرباب شركات السيرك الكبرى في إيطاليا وألمانيا وسويسرا التي تبحث عن يد عاملة لمزاولة الأشغال الشاقة، كان لديها ارتفاع كبير في الطلب، مقابل انكماش كبير في العروض، بسبب الأزمة الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة. حتى أن أرباب الشغل ومدراء السيرك كانوا يُرسلون هؤلاء العمال لقضاء العطلة السنوية في المغرب، عبر القطار والحافلات. وكانوا يقضون أياما محترمة من عطلتهم في التنقل للوصول من وسط أوروبا إلى قرى المغرب المنسية، بدل أن تحجز لهم الشركات في الطائرات، حسب ما نصت عليه عقود العمل.
اليوم، وصل عدد كبير من هؤلاء العمال إلى سن التقاعد، ومنهم من سوف تصرف له دول الاتحاد الأوروبي، حسب قوانين الشغل، أجرة لن تتجاوز 400 أورو شهريا، والسبب أن أجرتهم الأساسية خلال سنوات عملهم لدى هذه الشركات كانت متدنية، وبالكاد تحترم قوانين الشغل المعمول بها في دول الاتحاد.
وهو ما يعني أن هؤلاء الناس لن يكونوا قادرين بكل تأكيد على تحمل أعباء المعيشة، وسوف يتعين عليهم إما العودة إلى المغرب، أو البحث عن عمل في مجال الفلاحة، بحكم أنهم لا يحملون أي شهادات ولم يستفيدوا من أي تكوين سابقا. ولكم أن تتصوروا قدرة إنسان على العمل وعمره تجاوز الخامسة والستين، أنفق أكثر من نصفها تقريبا في العمل بين الآليات الضخمة ونقل المعدات الثقيلة يدويا، وحمل أغراض فرق السيرك، ودفع الفيلة والخيول وإجبارها على دخول الأقفاص، والسفر آلاف الكيلومترات بين الثلوج.
هؤلاء العمال المغاربة يستحقون فعلا أن يلتفت إليهم الناس. فحتى عندما كانوا يزاولون مهامهم الشاقة، كانوا يسمعون أصوات التصفيق لأعضاء الفرق التي قدمت العروض والاستعراض، لكن لم يصفق لهم أحد، رغم أن ظهورهم تقوست من فرط حمل الأثقال. بل إن بعضهم كانوا موهوبين في تقديم العروض الكوميدية وحركات الخفة، لكنهم لم يحظوا بفرصة. المرة الوحيدة التي ابتسم لهم فيها الحظ، كانت عندما حصلوا على التأشيرة!