خالد فتحي
أمران اثنان يحيلان على إحياء الذكرى 48 للمسيرة الخضراء أحدثا فارقا مغربيا وإفريقيا، أولهما إعلان الملك من خلال خطابه بالمناسبة عن اكتمال الرؤية لما يمكن أن نسميه المجال الجيواستراتيجي للمغرب الذي مده إفريقيا وأطلسيا، والثاني كون نفس خطابه أشر على أننا لم نعد، وبتوالي الخطب ذات البعد الإفريقي، إزاء ملك يتحدث فقط لشعبه عن مشاريع الحاضر والمستقبل، وإنما صرنا نستمع فيه لزعيم إفريقي فذ يتوجه ويخطط بحذق ومهارة ونفاذ بصيرة لقارة بأسرها.
نعم لم يكن ملكنا البارحة بالقطع رئيس دولة شعبويا يطلق الكلام على عواهنه، ولم يكن أيضا يلقي عبارات مرسلة إنشائية في الهواء، وإنما كان يصدر عن عقيدة راسخة ترسبت لديه بأهمية العمل الجاد والكفاح المستميت من أجل إفريقيا ورفعة إفريقيا.
لقد كان يزف لنا بعبارات مقتضبة وبليغة بشرى الشروع في تنفيذ توجه جديد صاغته الدبلوماسية المغربية على مهل حتى اختمر وتبلور مسارا وبرنامجا تنمويا شاملا لا مناص لإفريقيا عن السير فيه، خصوصا في ظل التحولات الرهيبة التي يعرفها العالم، والأطماع التي تحوم حول خيرات قارتنا السمراء من طرف القوى العظمى.
جلالة الملك اختار أن يكلم إفريقيا الأمس في ذكرى تحرير أرضنا السليبة، وكأنما يعدها ويحضها على أن تنهض وتتكاتف بدورها لأجل أن تتحرر من الاستعمار الجديد البغيض.
هكذا قرر بخطابه أن يدلف بالمملكة وبما يقرب من نصف دول إفريقيا، لمرحلة تفعيل مبادرة الدول الإفريقية الأطلسية التي كانت قد وضعت لبناتها لأول مرة ذات 8 يونيو من سنة 2022 ببلادنا… تلك المبادرة التي نظر لها وحمل لواءها المغرب عبر ثلاث نسخ من الاجتماعات الوزارية التي انعقد اثنان منها بالرباط وواحد بالضفة المقابلة للأطلسي نيويورك.
عام ونصف فقط من وضع خارطة الطريق وإعلانين من الرباط كانت كافية لكي تدرك الدبلوماسية المغربية التي يقودها جلالته من خلال حسها البرغماتي وقدرتها الاستشرافية والاستقرائية لموازين القوى عالميا، أنه لا مجال لهدر الزمن، وأنه قد حان الوقت للمرور للسرعة القصوى لكي يتحول هذا الحلم الذي زود به جلالته قارته إلى حقيقة ماثلة للعيان.
فالمغرب يريد المزيد من التعاون والاندماج بين الدول الإفريقية الأطلسية لأجل توطيد السلام والازدهار والاستقرار بهذه المنطقة… يريد شريطا أطلسيا إفريقيا مماثلا للشريط الأمريكي في ازدهاره ووحدته.
هذا الورش القاري العملاق جعل الملك لا يتطرق للتفجيرات الدنيئة التي عرفتها السمارة، لأنه اعتبرها أضعف من أن يلتفت إليها أسد هصور كالمغرب، شيئا ما أشبه ما يكون بحشرجة المحتضر أو برقصة الديك المذبوح، ولذلك رأيناه، وتلك أخلاق الملوك، قد فضل أن يرد على الدناءة والجبن والغدر، بالإمعان في نهج خيار البناء والعمران وتحقيق غاية الاستخلاف في الأرض، ليس لبلدنا فقط، وإنما لـ23 بلدا إفريقيا، بل وأكثر من ذلك، لأن إمارة المؤمنين المتجذرة إفريقيا، لم تنس أن تمد يدها كذلك لدول الساحل الحبيسة، التي تكابد الأمرين من أجل التنمية، والتي تخنق أنفاسها بسبب الحيف الجغرافي وبفعل علوقها بين كماشتي الإرهاب وأطماع الدول العظمي التي يسيل لعابها لما تزخر به من ثروات وإمكانيات، حيث دعا جلالته من خلال فكرة من خارج الصندوق، إلى مبادرة دولية لإيجاد منفذ لها على الأطلسي.
إن جلالته، وهو يفصح عن هذا الاقتراح الفريد من نوعه، لينبه كل الأفارقة إلى أن سر قوة إفريقيا إنما يكمن في تلاحمها وترابطها.
إن هذا المشروع الأطلسي لجلالته يؤدي خدمة من نوع آخر حتى لخصومنا الذين أرادوا محاصرة المغرب بإغلاق حدودهم البرية والجوية، إذ سيكتشفون من خلاله تهافت مخططاتهم ومؤامراتهم، ولربما سينتبهون لأول مرة إلى أرض الله ومحيطاته الواسعة التي يمكن لها أن تستقبل وتستوعب المبادرات الخلاقة المبدعة للمغرب، وسيفهمون ولو بعد فوات الأوان كم كانوا ساذجين حين توهموا أن المغرب سيقع في براثن القدرية الجغرافية التي حاولوا عبثا فرضها عليه. ولربما سيقتنعون بالتالي أنه بلد ترعاه عناية الله تعالى، وأنه لا يمكن خنقه أبدا مهما بيتوا له ذلك بدسائسهم.
إنه بالانتباه فوق هذا للتحولات التي عرفتها الدبلوماسية المغربية في السنين الأخيرة، ولتنويع الشراكات التي عمدت لها، ولتنظيمنا المرتقب لمونديال 2030 بمعية دولتين بحريتين هما البرتغال وإسبانيا، وللعلاقات الجيدة والاستراتيجية التي صارت تربط المغرب بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وهما البلدان اللذان يكاد يحيط أو يحيط بهما البحر من كل جانب، وكذلك لما دعا له صاحب الحلالة من ضرورة إنشاء أسطول بحري تجاري قوي وتنافسي، تكون الدولة المغربية قد صنفت نفسها أو تريد أن تصنف نفسها بدءا من هذا الخطاب قوة بحرية سوف يقام لها ويقعد في المستقبل القريب.
إن جلالة الملك يفتح أمامنا أفقا ومنفذا جديدا لحيازة القوة بدعوتنا إلى أن نولي وجه تجارتنا صوب المحيط ونحو البحر، ونتمتع ونستفيد بمزاياه في الحركة والحيوية اللوجستيكية.
إنه مقتنع أننا نمتلك شروط هذا التحول إلى قوة بحرية: مجتمعنا مولع بالبحر وموقعنا الجغرافي لا نظير له، وشواطئنا مناسبة لتشييد الموانئ ومناخنا جيد. كتلتنا السكانية لا بأس بها، ومساحة بلدنا كبيرة وسواحلنا طويلة منذ أن عادت لنا صحراؤنا بالمسيرة الخضراء. كما أنه لا تنقصنا الآن القيادة السياسية الواعية بأهمية أن نمخر عباب المحيط ناشدين للتواصل الإنساني ناشرين للتنمية باذلين للإشعاع القاري والدولي.
ما يلزمنا هو تحقيق المزيد من الموارد لأجل تجارة وازنة. وهذا يتأتى حسب خطاب الملك في الاستثمار في تحلية المياه التي ستطور الزراعة، وفي الاقتصاد الأخضر، والطاقات المتجددة، والسياحة الأطلسية.
كل هذا لم يكن ليبشر به الملك لولا ارتياحه إلى أن الرياح على مستوى المنتظم الدولي تسير وفق ما تشتهيه سفن المملكة، وكذا يقينه التام من أن المغرب قد حسم قضية وحدته الترابية للأبد بتصاعد وتيرة التأييد الدولي لطرح الحكم الذاتي، وبالتنمية المستدامة التي تعرفها صحراؤنا المغربية في كل المجالات.
إن هذا الخطاب لدليل على أن الأقاليم الصحراوية قد أصبحت قاطرة للوطن بأكمله إفريقيا وأطلسيا، بل وصارت في عيون العالم وعيون الأفارقة بالخصوص علامة بما تحقق فيها من منجزات على أن المغرب بلد يمكن دائما التعويل والاعتماد عليه لرسم الطريق وتذليل الصعاب وتحقيق المستحيل ليس لنفسه فقط بل ولقارته أيضا.