الملك محمد السادس يفتتح البرلمان بخطاب المسؤولية الجماعية والتعبئة الشاملة
حرص ملكي على تعميم التغطية الاجتماعية وتحسين ظروف عيش المغاربة
إعداد: محمد اليوبي – النعمان اليعلاوي
وجه الملك محمد السادس، يوم الجمعة الماضي، انطلاقا من القصر الملكي بالرباط، خطابا ساميا إلى أعضاء البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية العاشرة، وهي آخر سنة في عمر الولاية الحالية. وعلى غرار الخطب السابقة تميز الخطاب الملكي بالصراحة والواقعية، حيث رسم معالم خارطة الطريق لمواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لفيروس كورونا، من خلال تأكيده على ضرورة توفير التغطية الاجتماعية لكل المغاربة ووضع خطة لإنعاش الاقتصاد الوطني.
قال الملك في خطابه: «نفتتح هذه السنة التشريعية في ظروف استثنائية، وبصيغة مختلفة»، مشيرا إلى أن هذه السنة «فهي مليئة بالتحديات، خاصة في ظل آثار الأزمة الصحية التي يعرفها المغرب والعالم»، وأضاف: «كما أن هذه السنة هي الأخيرة في الولاية التشريعية الحالية، حيث تتطلب منكم المزيد من الجهود، لاستكمال مهامكم في أحسن الظروف، واستحضار حصيلة عملكم التي ستقدمونها للناخبين». وبذلك يكون الملك قد قطع الشك باليقين بخصوص تنظيم الاستحقاقات الانتخابية في وقتها المحدد، خلال السنة المقبلة، كما أعلن عن ذلك سابقا عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، في لقائه مع الأمناء العامين للأحزاب السياسية.
وأشار الملك في خطابه إلى أن هذه الأزمة ما زالت مستمرة بانعكاساتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وشدد على ضرورة التحلي باليقظة والالتزام للحفاظ على صحة وسلامة المواطنين، ومواصلة دعم القطاع الصحي، بموازاة مع العمل على تنشيط الاقتصاد، وتقوية الحماية الاجتماعية، وأضاف قائلا: «لقد أبانت هذه الأزمة عن مجموعة من الاختلالات ومظاهر العجز، إضافة إلى تأثيرها السلبي على الاقتصاد الوطني والتشغيل».
الإقلاع الاقتصادي في صلب الاهتمام الملكي
أعلن الملك محمد السادس عن إطلاق خطة طموحة لإنعاش الاقتصاد، ومشروع كبير لتعميم التغطية الاجتماعية، وأكد على اعتماد مبادئ الحكامة الجيدة، وإصلاح مؤسسات القطاع العام، ومن شأن هذه المشاريع الكبرى أن تساهم في تجاوز آثار الأزمة، وتوفير الشروط الملائمة لتنزيل النموذج التنموي الذي يتطلع إليه المغاربة، وقال: «نضع خطة إنعاش الاقتصاد، في مقدمة أسبقيات هذه المرحلة»، وأوضح أن هذه الخطة تهدف إلى دعم القطاعات الإنتاجية، خاصة نسيج المقاولات الصغيرة والمتوسطة، والرفع من قدرتها على الاستثمار، وخلق فرص الشغل، والحفاظ على مصادر الدخل. وشدد الملك على ضرورة أن يتم تنزيلها في إطار تعاقد وطني بناء بين الدولة والشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، من أجل ضمان شروط نجاحها، انطلاقا من تلازم الحقوق والواجبات.
وأكد الملك أنه في إطار الجهود المبذولة لدعم المقاولات، من خلال آلية القروض المضمونة من طرف الدولة، فقد استفاد منها إلى حدود الآن ما يزيد على 20 ألف مقاولة مغربية، بما يقارب 26 مليارا و100 مليون درهم، وهو ما مكن هذه المقاولات من الصمود أمام هذه الأزمة وتخفيف حدة آثارها، ومن الحفاظ على مناصب الشغل. ودعا الملك إلى مواصلة الجهود في هذا المجال، سواء من طرف القطاع البنكي، وصندوق الضمان المركزي، أو من جانب المقاولات وجمعياتها المهنية.
وأوضح الملك أن خطة إنعاش الاقتصاد ترتكز على صندوق الاستثمار الاستراتيجي، الذي دعا إلى إحداثه، مشيرا إلى أنه قرر أن يطلق عليه اسم «صندوق محمد السادس للاستثمار»، وأضاف: «وإننا نتطلع لأن يقوم بدور ريادي في النهوض بالاستثمار، والرفع من قدرات الاقتصاد الوطني، من خلال دعم القطاعات الإنتاجية، وتمويل ومواكبة المشاريع الكبرى في إطار شراكات بين القطاعين العام والخاص». ولتوفير الظروف الملائمة لقيام هذا الصندوق بمهامه على الوجه الأمثل، قال الملك: «فقد وجهنا بأن يتم تخويله الشخصية المعنوية، وتمكينه من هيآت التدبير الملائمة، وأن يكون نموذجا من حيث الحكامة والنجاعة والشفافية»، على أن ترصد له 15 مليار درهم من ميزانية الدولة، بما يشكل حافزا للشركاء المغاربة والدوليين لمواكبة تدخلاته، والمساهمة في المشاريع الاستثمارية، دعما لخطة الإنعاش، وتوسيع أثرها الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. وأبرز الملك أن الصندوق سيرتكز في تدخلاته على صناديق قطاعية متخصصة تابعة له، حسب المجالات ذات الأولوية، التي تقتضيها كل مرحلة، وحسب حاجيات كل قطاع، مضيفا أن من بين هذه المجالات «إعادة هيكلة الصناعة، والابتكار والقطاعات الواعدة، والمقاولات الصغرى والمتوسطة، والبنيات التحتية، والفلاحة والسياحة».
القطاع الفلاحي رافعة للتنمية ومحرك للنمو
أكد الملك على الأهمية التي يجب أن تعطى للفلاحة والتنمية القروية، ضمن عملية الإنعاش الاقتصادي، وقال: «ففي الظروف الحالية، يتعين دعم صمود هذا القطاع الوازن، وتسريع تنفيذ جميع البرامج الفلاحية»، وهو ما سيساهم في تحفيز الاستثمار والتشغيل، وتثمين الإنتاج الفلاحي الوطني، وتسهيل الاندماج المهني بالعالم القروي، وفقا للاستراتيجية الفلاحية الجديدة.
وأوضح الملك أن عملية تعبئة مليون هكتار من الأراضي الفلاحية الجماعية، لفائدة المستثمرين وذوي الحقوق، تشكل رافعة أساسية ضمن هذه الاستراتيجية، مبرزا جلالته أن «حجم الاستثمارات المنتظرة في إطار هذا المشروع، يقدر بما يقارب 38 مليار درهم على المدى المتوسط». وأضاف الملك أن هذه الاستثمارات ستمكن من خلق قيمة مضافة، لتمثل حوالي نقطتين إضافيتين سنويا من الناتج الداخلي الخام، وإحداث عدد هام من مناصب الشغل خلال السنوات القادمة. ودعا الملك إلى ضرورة «تعزيز التنسيق والتعاون بين القطاعات المعنية، مع العمل على تحفيز الشباب في العالم القروي، عن طريق خلق المقاولات، ودعم التكوين، لاسيما في المهن والخدمات المرتبطة بالفلاحة».
حرص ملكي على تعميم التغطية الاجتماعية على كل المغاربة
أكد الملك محمد السادس على الحرص على وضع النهوض بالمجال الاجتماعي وتحسين ظروف عيش المواطنين في صلب دينامية التنمية الاقتصادية، وقال: «إننا نحرص دائما على تلازم تحقيق التنمية الاقتصادية، بالنهوض بالمجال الاجتماعي، وتحسين ظروف عيش المواطنين»، داعيا في هذا الصدد إلى تعميم التغطية الاجتماعية على جميع المغاربة، والتي تعتبر مشروعا وطنيا كبيرا وغير مسبوق، يرتكز على أربعة مكونات أساسية.
وأوضح الملك أن المكون الأول يهم تعميم التغطية الصحية الإجبارية في أجل أقصاه نهاية سنة 2022، لصالح 22 مليون مستفيد إضافي، من التأمين الأساسي على المرض، سواء ما يتعلق بمصاريف التطبيب والدواء أو الاستشفاء والعلاج، مضيفا أن المكون الثاني يتعلق بتعميم التعويضات العائلية لتشمل ما يقارب سبعة ملايين طفل في سن الدراسة، تستفيد منها ثلاثة ملايين أسرة. وسجل الملك أن المكون الثالث يهم توسيع الانخراط في نظام التقاعد، لحوالي خمسة ملايين من المغاربة، الذين يمارسون عملا ولا يستفيدون من معاش، فيما يروم المكون الرابع تعميم الاستفادة من التأمين على التعويض عن فقدان الشغل، بالنسبة إلى المغاربة الذين يتوفرون على عمل قار. ودعا الملك في هذا الصدد إلى تشاور واسع مع جميع الشركاء، واعتماد قيادة مبتكرة وناجعة لهذا المشروع المجتمعي، في أفق إحداث هيأة موحدة للتنسيق والإشراف على أنظمة الحماية الاجتماعية.
الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة
اعتبر الملك محمد السادس نجاح أي خطة أو مشروع، مهما كانت أهدافه، يبقى رهينا باعتماد مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، لذلك «يجب أن تعطي مؤسسات الدولة والمقاولات العمومية المثال في هذا المجال، وأن تكون رافعة للتنمية وليس عائقا لها»، يقول الملك، مضيفا: «ونظرا للأهمية الاستراتيجية لهذه المؤسسات، فإننا نجدد الدعوة للقيام بمراجعة جوهرية ومتوازنة لهذا القطاع»، مشيرا إلى الدور الهام الذي ستقوم به في هذا المجال الوكالة التي ستشرف على مساهمات الدولة وتتبع أدائها. وشدد الملك على أن نجاح خطة الإنعاش الاقتصادي، والتأسيس لعقد اجتماعي جديد، يقتضي تغييرا حقيقيا في العقليات، وفي مستوى أداء المؤسسات العمومية، ولهذه الغاية دعا الحكومة إلى القيام بمراجعة عميقة لمعايير ومساطر التعيين في المناصب العليا، بما يحفز الكفاءات الوطنية على الانخراط في الوظيفة العمومية، وجعلها أكثر جاذبية.
وأكد الملك أن مواجهة هذه الأزمة غير المسبوقة تتطلب تعبئة وطنية شاملة، وتضافر جهود الجميع لرفع تحدياتها، وقال: «ونغتنم هذا الموعد الدستوري الهام، لندعو كل المؤسسات والفعاليات الوطنية، وفي مقدمتها البرلمان، للارتقاء إلى مستوى تحديات هذه المرحلة، وتطلعات المواطنين»، مشيرا إلى أن «المسؤولية مشتركة، والنجاح إما أن يكون جماعيا لصالح الوطن والمواطنين، أو لا يكون»، وأضاف: «إنني واثق بأننا سنرفع جميعا هذا التحدي، في إطار الوحدة الوطنية، والتضامن الاجتماعي».
الخطب الملكية تحمل أفكارا متجددة وتوجيهات سياسية واقتصادية واجتماعية للحكومة والبرلمان : الدكتور خالد الشرقاوي السموني أستاذ بكلية الحقوق بالرباط وبالمعهد العالي للإعلام والاتصال
ألقى جلالة الملك، وفقا لأحكام الدستور، خطابا بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية العاشرة، يوم الجمعة 09 أكتوبر 2020.
وقبل تحليل أهم مضامين الخطاب الملكي وجبت الإشارة إلى أن أهم ما أصبح يميز الخطب الملكية في السنوات الأخيرة، كونها قد أصبحت تتميز بالواقعية والصراحة، وتتماشى مع الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه المواطن المغربي، بل وتحمل في طياتها أفكارا متجددة وتوجيهات سياسية واقتصادية واجتماعية للحكومة والبرلمان وكل المؤسسات المعنية، كل حسب اختصاصه، لتسريع أوراش التنمية وتعزيز الإصلاحات على جميع الأصعدة والنهوض بالاقتصاد وتعزيز الحياة الاجتماعية للمغاربة في وضعية هشة والنهوض بالشباب وتكرس مبادئ الحكامة والنجاعة والمحاسبة.
وبالرجوع إلى الخطاب الملكي لافتتاح السنة الأولى من السنة التشريعية الخامسة نجده لا يخرج عن هذا التوجه العام نظرا لتميزه بالواقعية والجدية في معالجة العديد من المشاكل والمعوقات الاجتماعية والاقتصادية ببلادنا، بل سنجد هذا الخطاب الأخير تحدث بلغة صريحة وصادقة، عندما أشار إلى انعكاسات الأزمة الصحية الناتجة عن وباء كوفيد 19، التي كانت لها انعكاسات على كثير من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وهي مازالت مستمرة، حيث كان لها تأثير سلبي على الاقتصاد الوطني، مما يستوجب المزيد من الحكامة الجيدة وإصلاح القطاع العام وتنزيل النموذج التنموي الجديد ووضع خطة إنعاش الاقتصاد ودعم القطاعات الحيوية كالنسيج والنهوض بالمقاولات المتوسطة والصغرى والتي ظلت صامدة أمام الأزمة الصحية، ومن المتوقع أن تتأزم بشكل كبير في الشهور القادمة ما لم تكن هناك خطة للإقلاع الاقتصادي في إطار تعاقد وطني بناء تساهم فيه الحكومة والقطاع البنكي واتحاد المقاولات وكل الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين.
عدة رسائل حملها الخطاب الملكي أمام البرلمان، والتي كانت موجهة لكل من الحكومة والبرلمان والفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين.
حيث ركز على عدد من النقاط، نذكر أهمها:
أولا: خطة لإنعاش الاقتصاد الوطني
تتجلى هذه الخطة في إحداث صندوق محمد السادس للاستثمار، من بين أهدافه دعم القطاعات الإنتاجية وتمويل المشاريع الكبرى، ستكون له الشخصية المعنوية (مؤسسة عمومية تحدث بمقتضى القانون)، ويتم تسييرها وفقا لمبادئ الحكامة والنجاعة. يتوقع أن يصدر القانون المحدث له قبل نهاية الولاية التشريعية الحالية.
ومن بين المجالات والقطاعات التي ستعمل هذه المؤسسة العمومية على هيكلتها: الصناعة والفلاحة والسياحة والتنمية القروية، وذلك من أجل تحفيز الاستثمار والتشغيل وإدماج الشباب القروي في التكوين المهني القروي، خاصة في ما يتعلق بالقطاع الفلاحي، لأن هيكلة هذا القطاع وربطه بالصناعة يحتاج إلى كفاءات مهنية في العالم القروي.
ثانيا: تعزيز الحماية الاجتماعية
أصبح البعد الاجتماعي سمة بارزة في الخطب الملكية الأخيرة، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الوضع الاجتماعي في المغرب لا يدعو إلى الاطمئنان، علما بأن أزمة كورونا عمقت من الأزمة الاجتماعية، فلولا الصندوق المحدث من أجل مواجهة تداعيات الجائحة، لكان الوضع أكثر سوءا. لذلك فإن جلالة الملك كان واعيا بهذا الوضع الذي قد يشكل عائقا أمام تنزيل النموذج التنموي الجديد .
وعلى هذا الأساس حرص جلالته على إعطاء دفعة قوية للنهوض بالحالة الاجتماعية ببلادنا وذلك من خلال تعميم التغطية الاجتماعية وتعميم التعويضات العائلية وتوسيع الانخراط في نظام التقاعد وتعميم الاستفادة عن فقدان الشغل.
ثالثا: تعزيز مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة
شدد جلالة الملك في خطابه على النجاعة والفعالية والسرعة في تفعيل الإصلاحات، وإنجاز المشاريع الاقتصادية والاجتماعية المسؤولة عن تنفيذها بالدرجة الأولى الإدارات العمومية والجماعات الترابية، في إطار تفعيل المبدأ الدستوري “ربط المسؤولية بالمحاسبة”. فالمرحلة الحالية هي مرحلة العمل والإنجاز والمحاسبة لمواجهة تداعيات الأزمة الصحية، قبل التفكير في الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2021 – حسب رأيي _.
و ارتباطا بمبدأ الحكامة الجيدة، دعا جلالة الملك الحكومة إلى إعادة النظر في الإطار القانوني والتنظيمي المتعلق بالتعيين في مناصب المسؤولية حتى تتمكن الكفاءات المغربية من الانخراط في الوظيفة العمومية، لأنه لوحظ أن عددا من الأطر الكفؤة هاجرت إلى خارج الوطن لانسداد الأفق أمامها، بسبب المحسوبية والزبونية والاعتبارات الحزبية.
ولذلك لا بد من إطار تشريعي جديد لتحقيق النزاهة والموضوعية في تعيين حاملي الشهادات والاستفادة من كفاءاتهم وخبراتهم، حتى لا تجنح هذه الفئة إلى طريق اليأس والعدمية أو تهاجر إلى الخارج بحثا عن من ينصفها ويرد لها الاعتبار.
رابعا: مسؤولية البرلمان في المرحلة القادمة
يلاحظ على ضوء الخطاب أن جلالة الملك لم يتحدث بشكل مباشر عن الاستحقاقات القادمة والظروف غير الاعتيادية التي ستمر فيها، لكنه وجه الكلام إلى أعضاء البرلمان أن يكونوا في مستوى تحديات المرحلة وأن يلبوا تطلعات وانشغالات المواطنين في كل ما يخص تدبير الشأن العام، في مختلف المجالات.
وقد يستفاد من ذلك أن البرلمان سيواجه تحديات حقيقية على إثر مناقشة مشاريع القوانين الانتخابية على أساس من التوافق وإعلاء المصلحة الوطنية على حساب المصلحة الحزبية. كما أن البرلمان ينتظره كم هائل من مشاريع القوانين والسياسات العمومية خلال السنة التشريعية الأخيرة لتنزيل الخطط والاستراتيجيات المتعلقة بإنعاش الاقتصاد الوطني ووضع منظومة الحماية الاجتماعية، بل أكثر من ذلك، فإن تمثيل المواطنين أمانة عظمى على المنتخبين أداؤها، من خلال العمل على الاستجابة لانشغالات المواطنين الملحة. وهي مسؤولية وطنية تقتضي من البرلمان الارتفاع إلى مستوى اللحظة التاريخية التي تعيشها بلادنا. ثم أن المغاربة أصبحوا أكثر نضجا في التعامل مع المؤسسات التمثيلية، وأكثر صرامة في محاسبة المنتخبين على حصيلة عملهم.
وأخيرا يتوجب على كل القوى الحية في البلاد والمواطنين الانخراط في مسلسل الإصلاح والتنمية، بالمزيد من الثقة والتعاون، والوحدة الوطنية، والتعبئة واليقظة، والتضامن الاجتماعي.
ثلاثة أسئلة لصبري الحو أستاذ باحث متخصص في القانون العام : «الخطاب الملكي حمل تعبيرا عن الرؤية الملكية للنموذج التنموي الذي يحتاجه المغرب بعد كورونا»
- ما هي أهم الرسائل السياسية التي حملها خطاب الملك إلى نواب الأمة؟
أعتبر أن هذا الخطاب هو خطاب من أجل حشد العزائم والتشمير على السواعد لمغرب ما بعد كورونا، وإن كان العالم كله يعيش آثار هذه الجائحة الوبائية التي أثرت على الاقتصاد العالمي، إلا أنه عند الانتكاسة والمصائب، تظهر الدول القوية التي تتمكن من تجاوز الصعاب والانتصار في هذه المحن كما كان الشأن في الحرب العالمية الثانية، إذ تمكنت دول من أن تحتل الريادة بعد الحرب، وهي التي كانت غير معروفة أو تعد من الدول المتخلفة. وما يمكن قوله إزاء هذا الخطاب، هو أن جلالة الملك يخطط لأن يكون المغرب في ما بعد كورونا، بالمقام الأول يتخطى ويتجاوز تبعات الأزمة، وفي نفس الوقت يحقق انتعاشة اقتصادية، فالملك في هذا الخطاب يقر أن الاقتصاد الوطني قد تضرر بفعل الأزمة، وعندما يتحدث عن الانتعاش الاقتصادي فهو تأكيد على الوضعية السلبية التي تسبب فيها الوباء، وأن الاقتصاد الوطني يحتاج إلى إجراءات من أجل تحقيق الانتعاش، وهو ما سطره الملك من خلال إنشاء صندوق الاستثمار.
إن إنشاء هذا الصندوق دون أن يكون مقرونا بخطة مدروسة، وسياسة ممنهجة تعتمد الوسائل والطريقة الفعالة، من ثم أقرأ في الخطاب الملكي تعبيرا عن الرؤية الملكية للنموذج التنموي الذي يحتاجه المغرب، والذي يرتكز على رؤية فعلية للانتعاشة الاقتصادية، والتي ليست غاية في حد ذاتها، بل من أجل تحقيق رخاء اقتصادي واجتماعي، ومن ثم عبر الملك عن مجموعة من الأهداف التي يجب تحقيقها على الأقل في حدود سنة 2022، منها تحقيق التغطية الاجتماعية لـ22 مليونا من المواطنين، ووصول المساعدات الاجتماعية لجميع الفئات بما فيها الفئات الاجتماعية الهشة، وبالتالي فالغرض هو أن تكون الانتعاشة الاقتصادية مقرونة بأن يسود نظام اجتماعي حمائي. - ماذا بشأن تدخل الدولة في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية؟
لقد عبر جلالة الملك أيضا في هذا الخطاب عن رجوع ما يسمى بالدولة الحارسة والمتدخلة، من خلال ما سماه جلالته بإعادة النظر في طريقة التوظيف من أجل استقطاب الكفاءات المغربية نحو الوظيفة العمومية، وقد كان جلالته من ذي قبل يشجع على اللجوء للقطاع الخاص، غير أنه اليوم يشجع على إعطاء ديناميكية ونفس جديد للقطاع العمومي، على خلفية أن جلالة الملك ينظر إلى أنه يجب أن يلعب القطاع العمومي دورا مهما في مغرب ما بعد كورونا، بعدما كان الجميع يظن أن القطاع الخاص يمكن أن يحقق لوحده المعجزة وما عجز عنه القطاع.
وبالتالي، فإن هذا الخطاب هو منعطف جديد نحو تعزيز دور القطاع العمومي، وتدخل الدولة في الاقتصاد، وهذا الأمر طبيعي على اعتبار أن العديد من الدول الآن لن تسير في اتجاه التجارة الحرة وتوزيع العمل على المستوى العالمي، بل قد نشهد أن كل دولة ستعتمد على قطاعها الداخلي في الميدان الصناعي والسياحي والفلاحي، وفي هذا الإطار فقد أكد جلالة الملك على دور الفلاحة في تنمية العالم القروي، ومن ثم يمكن القول إن هذا الخطاب هو نسخة للنموذج التنموي الذي يريده الملك لمغرب ما بعد كورونا، كما أنه لم يفوت الفرصة للتأكيد على ضرورة التعبئة إذ إننا مازلنا نعيش الجائحة إلى حين اكتشاف اللقاح. - أين تكمن المسؤولية المباشرة للبرلمان والحكومة في أجرأة مضامين الخطاب الملكي؟
إن جلالة الملك أشار بوضوح إلى أن المؤسسات يجب أن تلعب دورا في جلب الاستثمار وتحفيز المستثمرين، وأن تكف عن دور المماطل ودور البيروقراطية، وذلك عندما أشار إلى أن دور المؤسسات يجب أن يكون محفزا ولا يكون معرقلا، وبالتالي وجبت إزالة كل العراقيل التي تحول دون أن يتمكن المستثمر من مباشرة استثماراته في وقت وجيز.
وبالإضافة إلى هذا، نجد الجانب المتعلق بتدخل مؤسسات الدولة على المستوى الاجتماعي، حيث إن كل هذه الأهداف تحتاج إلى ترسانة قانونية وإلى تشريع، ومن ثم إلى مبادرات، باقتراح من البرلمان أو بمشاريع قوانين من الحكومة، وبالتالي فهي دعوة للحكومة والبرلمان باعتبارهما المؤسستين المضطلعتين بالمهام التشريعية، وهما المعنيتان بهذا الشأن المرتبط بالشق التشريعي والقانوني.
التوهامي : «الخطاب الملكي أكد على ضرورة الاهتمام بالقطاع الاجتماعي وإنعاش الاقتصاد الوطني»
قال عبد الخالق التوهامي ، أستاذ الاقتصاد بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي إن الخطاب الذي وجهه الملك إلى نواب الأمة في في افتتاح السنة التشريعية «قد حمل رسائل متعددة، وهي الرسائل التي كانت متوقعة بعد خطاب العرش الأخير، وقد حمل أيضا نفس المحاور التي تحدث عنها صاحب الجلالة في خطاب العرش، وتتعلق بجانب التغطية الصحية، وإنعاش الاستثمار، ودعم بعض القطاعات، خصوصا القطاع الفلاحي، بالإضافة إلى الجانب الاجتماعي، وإصلاح القطاع العام»، مضيفا أن «كل هذه المحاور كانت متوقعة اعتبارا من خطاب العرش الماضي، بل إنه من الجانب الاقتصادي هو استمرارية لما جاء في خطاب العرش» حسب التوهامي.
من جانب آخر، أشار إلى أن «الخطاب الملكي السابق بمناسبة عيد العرش حمل بعض التفاصيل حول توزيع مداخيل الصندوق الاستراتيجي للاستثمار، غير أن الخطاب الموجه للبرلمان تضمن تفاصيل أوفى، من خلال تأكيد الملك على أنه يجب على وزارة المالية والحكومة تحديدا أن تخصص في ميزانية 2021، المبالغ المحددة من طرف الحكومة لهذا الصندوق، وحيث بدأ من هذه الإجراءات، وفي سنة 2021، ستكون الخطوات الفعلية لأجرأة عمل الصندوق»، مبرزا أن «هناك تصورا واستمرارية لما تم الحديث عنه في خطاب العرش، وقد كان وزير المالية قد أشار إلى 42 مليارا وكيفية تعبئتها من أجل ضخها في الصندوق، وذلك وفق التزامات القطاعين العام والخاص».
وأبرز التوهامي أن «الظرفية الحالية أظهرت الحاجة إلى قطاعات قوية في الجانب الاجتماعي، بالخصوص قطاعي الصحة والتعليم، وهو الأمر الذي تفاعل معه الخطاب الملكي الذي جمع كل هذه الملفات من التغطية الصحية والحماية الاجتماعية والقطاع غير المهيكل في ما يمكن أن نسميه منظومة الدعم الاجتماعي، حيث أعطى الملف الاجتماعي أولوية، على اعتبار أن الوضعية التي عشناها ومازلنا نعيشها فرضت ضرورة الاهتمام بالقطاع الاجتماعي»، مشددا على أن «الأمر يستوجب من اللجنة الملكية المكلفة بإعداد النموذج التنموي إعادة صياغة أوراقها، على اعتبار أن الاهتمام بالقطاع الاجتماعي والبحث العلمي أصبح أولوية لا يمكن تجاوزها، وقد أعاد الخطاب الملكي الدفء نحو هذا التوجه، بعدما كانت أصوات تنادي قبل الجائحة بضرورة رفع الدولة يدها عن قطاعي الصحة والتعليم».
وبخصوص المسؤولية الحكومية في تفعيل مضامين الخطاب الملكي، خصوصا في ما يتعلق بإنعاش الاقتصاد وتعميم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية، أشار التوهامي إلى أن « الزمن الحكومي قليل جدا، ومن الصعب على الحكومة الآن تغيير الشيء الكثير، حيث إن العجز الحكومي عن مباشرة هذه الأوراش بدت بوادره من خلال مشروع قانون مالية 2021، وهو الذي لا يظهر أن هناك هوامش كبيرة لإنعاش الاقتصاد الوطني، وهذا في الوقت الذي يظهر فيه أن المشاكل الاقتصادية مازالت مستمرة وتكبر»، مضيفا أنه «لا يمكن الحديث عن إنعاش اقتصاد يبنى مثلا عن الفلاحة والسياحة في الوقت الذي مزالت تعاني فيه البلاد من الجفاف ومازالت الأجواء مغلقة في ظل تفشي الجائحة، وبالتالي فإن هوامش تحرك الحكومة لا يمكن أن تكون سوى من أجل تخفيف تبعات الأزمة، ويجب أن نتحمل الوضع لعام آخر، إذ أن مشروع مالية 2021 لن يستطيع أن يأتي بالجديد والكافي لإنعاش الاقتصاد الوطني».
إدريس الفينا : «الخطاب الملكي رسم خطوات إنعاش الاقتصاد الوطني وإصلاح النموذج الاجتماعي المغربي»
قال إدريس الفينا، أستاذ الاقتصاد بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي بالرباط، إن «الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية، كان جد دقيق، وقدم العديد من التفاصيل التي لم تكن متوفرة بخصوص خطة إنعاش الاقتصاد المغربي ما بعد جائحة كورونا، مبرزا أن «الخطاب الملكي حمل تأكيدا على أن آلية “ضمان أوكسيجين” التي منحتها الدولة للمقاولات من أجل تجاوز تداعيات الأزمة سمحت لتلك المقاولات بالاستفادة من حوالي 21 مليار درهم، بالإضافة إلى ما حمله الخطاب حول الصندوق الاستراتيجي للاستثمارات، والذي أصبح يحمل اسم صندوق محمد السادس للاستثمار، والذي سيتضمن 15 مليار درهم، سترد من الموازنة العامة، كما سيكون على شكل مؤسسة ذات الصفة الاعتبارية بمجلس حكامة مستقل»، مبرزا أن «هذا الصندوق سيركز دعمه للقطاعات المنتجة والمقاولات الصغرى والمتوسطة، وتبرز أولويته في إعادة هيكلة قطاع الصناعة والقطاعات الواعدة من السياحة والفلاحة».
وأشار الفينا إلى أن هناك تفصيلا مهما يرتبط بهندسة قطاع المالية العمومية، وهو أنه «سيتم، تحت هذا الصندوق، إحداث صناديق فرعية تكون تابعة للقطاعات المعنية، أي أن كل قطاع سيكون لديه صندوق عبارة عن حسابات خصوصية، وهو ما يظهر أن هذا الأمر لا يرتبط تحديدا بالقانون المالي»، مبرزا أن «الخطاب الملكي حمل تأكيدا على القطاع الفلاحي والدور الذي يمكن أن يقدمه، بالإضافة إلى الاستثمارات التي يمكن أن يجلبها القطاع والتي يمكن أن تصل إلى 38 مليار درهم، والتي يمكن أن تسمح أن ترفع بقيمة 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام».
وأكد الفينا أن «الخطاب الملكي تضمن جانبا مهما آخر وهو المرتبط بإصلاح النموذج الاجتماعي المغربي ليشمل كل المغاربة، وقد تم التأكيد على هذا الجانب في الخطاب، من خلال الارتكاز على أربعة مكونات أساسية، منها تعميم التغطية الصحية الإجبارية على ما تبقى من المغاربة، وهم بالتحديد 22 مليون مغربي وفي حدود سنة 2022، وهو برنامج استعجالي، بالإضافة إلى النقطة الثانية والتي تتعلق بتعميم التعويضات العائلية عن الأطفال الصغار، بالإضافة إلى توسيع الانخراط في نظام التقاعد، والذي سيشمل حوالي 5 ملايين مواطن، ثم في الجزء الرابع تعميم الاستفادة من التعويض عن فقدان الشغل بالنسبة للعاملين»، وأشار الفينا إلى أن «هذه الإجراءات التي حددها الخطاب الملكي من شأنها خلق جو جديد ما بعد جائحة كورونا».
وشدد الفينا على أن «كل هذه الإجراءات التي سطرها الخطاب، وتحديدا في الشق الاقتصادي، من قبيل القروض المضمونة، هدفها الحفاظ على النسيج الاقتصادي واستمرارية المقاولات ومحافظتها على مستويات إنتاجها السابق وأيضا مناصب الشغل السابقة، ولمَ لا خلق مناصب شغل جديدة»، مؤكدا أن «صندوق محمد السادس للاستثمار من شأنه هو الآخر لعب دور مهم في الحفاظ على وتوفير فرص الشغل، على اعتبار أنه يضم شراكة بين القطاعيين العام والخاص، وهذا معناه أن يوفر الصندوق استثمارات مزدوجة، والمعروف أن الاستثمارات من هذا النوع مولدة لفرص الشغل، بالإضافة إلى القطاع الفلاحي الذي هو منعش للتشغيل، وسلاسله التي تبدأ في البادية وتنتهي في المدينة تخلق فرص شغل متعددة».