الملك: «الرغبة الصادقة للمغرب وليبيا في الاتحاد لا تقابلها رغبة مماثلة لدى من يصطنع المشاكل ويجند الانفصاليين ويقوم مقامهم في المحافل الدولية والجهوية»
لا يمكن توقع أن يذهب تحليل ولي العهد سيدي محمد لمعاهدة وجدة وطبيعة الاتحاد الذي أفضت إليه بين المغرب وليبيا إلى مكان أبعد في استنطاق النصوص القانونية واستقراء ما وراء الاتفاقيات المتمخضة عن معاهدة وجدة، بولي العهد حينها رغم أنه كان في موقع الطالب الباحث إلا أنه كان يصعب عليه، من موقعه الحساس في قلب نظام الحكم في المغرب أن يجلي الحجاب عن كل شيء ويبدي رأيه بشكل يتجاوز موقعه الحساس في الحال والمآل، لكن في سياق تقديمه مضامين معاهدة وجدة وتحديدا فيما يتعلق بمجالات التعاون المغربي الليبي أفصح الملك عن تفاصيل تظهر حقائق أكثرها أهمية أن الملك الراحل الحسن الثاني كان أكثر الرابحين من الاتفاق مع القذافي فقد أمن شره المستطير على المغرب، بل وعمل، على الأقل خلال الفترة التي كان فيها التقارب المغربي الليبي كبيرا بعد خروج معاهدة وجدة إلى حيز التنفيذ، على تطويع مواقف القذافي منفعلة ودفعها نحو اتزان تتطلبه الاتفاقية الموقعة سنة 1984.
تبعا لذلك تم إقرار اتفاقات مبدئية بين البلدين على مستوى عدة قضايا خارجية، من مدخل التضامن كما عبر عنه الملك في بحثه. في هذا الصدد يذكر الملك: «التضامن على الصعيد الخارجي بين الدولتين يتجلى على عدة مستويات، فقد أشارت المعاهدة المنشئة للاتحاد العربي الإفريقي إلى أن الاتحاد يهدف إلى المساهمة في توحيد المغرب العربي وتحقيق وحدة الأمة العربية ودرء الأخطار المحدقة بالعالم الإسلامي، كما –بحكم طبيعته- اتحاد عربي إفريقي يترتب على قيامه ترسيخ التعاون العربي الإفريقي، وبالإضافة إلى ذلك يستهدف المساهمة في المحافظة على السلام الدولي وإيجاد الحلول للمشاكل الدولية المختلفة».
مسألة التضامن على المستوى الخارجي بين المغرب وليبيا تناولها الملك في بحثه لنيل الإجازة على ثلاثة مستويات؛ على المستوى العربي الإسلامي وعلى المستوى الإفريقي وعلى المستوى العالمي.
على المستوى العربي الإسلامي كانت قضية توحيد المغرب العربي أول ما اعتبره الملك أهدافا لاتحاد المغرب وليبيا، إذ يقول الملك: «لقد سجلت ديباجة معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي شعور الطرفين بما يجمع شعوب المغرب العربي من أواصر متينة قوامها وحدة الأصل والجغرافيا والتاريخ والدين واللغة وأنماط العيش وأساليب الحضارة، كما سجلت كذلك الاعتبار الذي يوليه الطرفان لتطلع شعوب المغرب العربي وقادتها منذ زمن بعيد إلى إقامة اتحاد بينهما يعزز صلاتها القائمة على وحدة المصير والجوار، ويسير بها قدما نحو تكوين وحدة متكاملة لا يستهان بوزنها في الميدانين السياسي والاقتصادي بين شعوب العالم المتقدمة ولا سيما في حظيرة دول حوض البحر الأبيض المتوسط. ولذلك، فإن توحيد المغرب العربي يعتبر أحد الأسباب التي دعت إلى قيام هذا الاتحاد، فقد أشارت المعاهدة في ديباجتها أيضا إلى أن تأسيسه جاء استجابة لتطلعات شعوب المغرب العربي وتحقيق طموحاتها في هذا المجال على نحو يتسم بالواقعية والتطبيق المحكم».
لقد كان بالغ الأهمية ربط تأسيس الاتحاد العربي الإفريقي بهاجس توحيد المغرب العربي، وذلك لغاية سبق أن نبه إليها الملك في مستهل بحثه عندما أشار إلى أن الإعلان عن الاتحاد فسر على نحو سلبي من طرف دول خاصة الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية، لذلك فإن حيزا كبيرا من معاهدة وجدة وتصريحات قادة المغرب وليبيا استغرقت في سبيل تبديد هذا التفسير السلبي، وكذلك فقد احتل هذا الموضوع مجالا واضحا في البحث الملكي إلى درجة أنه عاد لطرحه في خضم حديثه عن هدف من أهداف الاتحاد المغربي الليبي وهو توحيد المغرب العربي، إذ يقول الملك: «لقد جاءت معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي بعد إبرام معاهدة الإخاء والوفاق بين الجزائر وتونس والتي انضمت إليها موريتانيا فيما بعد، وقد نصت هذه الأخيرة على إيمان أطرافها بوحدة المصير في نطاق المغرب العربي الكبير وشعورهما بالانتماء إلى العالم العربي الإسلامي والقارة الإفريقية، وبضرورة تدعيم أواصر التقارب وتوطيد التضامن بين شعوبها، ورغبتها في تدعيم الاستقرار والسلم في منطقة المغرب العربي الكبير وفي العالم، كما نصت على تعهد أطرافها بالامتناع عن اللجوء إلى التهديد أو استعمال القوة في تسوية الخلافات التي قد تنشأ بينها، وعدم الانضمام إلى أي حلف أو تكتل يكتسي صبغة عسكرية أو سياسية موجهة ضد الاستقلال السياسي أو الوحدة الترابية أو أمن الطرف الآخر. وقد جاء في مادتها السادسة أن هذه المعاهدة تبقى مفتوحة لانضمام دول المغرب العربي الأخرى التي تقبل بأحكامها وذلك بموافقة أطرافها. كما نصت المادة السابعة على أن هذه المعاهدة تكون صالحة لمدة عشرين سنة قابلة للتجديد ما لم يرغب في ذلك أحد أطرافها».
لقد كان هاجس التصدي لأي تأويل مغرض حاضرا بقوة عقب خروج معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي للوجود إلى الحد الذي جعل بلدي المعاهدة يبديان استعدادهما إلى الانضمام إلى اتحاد دار بين الجزائر وتونس والتحقت به موريتانيا بعد ذلك تأسس على معاهدة الإخاء والوفاق، وفق ما ينقل الملك محمد السادس، وقد تم التعبير عن هذه الرغبة من طرف العقيد القذافي إلى جانب الملك الراحل الحسن الثاني كما يذكر الملك محمد السادس بالقول: «أما صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني فقد صرح بشأن الربط بين معاهدة وجدة ومعاهدة الإخاء والوفاق، بأنه «لا يمكن المقارنة بين اتفاقيات ليست من نوعية واحدة، فالاتفاقية الجزائرية التونسية الموريتانية من نوعية، والاتفاقية المغربية الليبية من نوعية أخرى، المهم أن كلتيهما ترمي إلى إقامة المغرب العربي، فيمكن أن نأخذ من الأولى ما يعجبنا، ونأخذ من الثانية جميع البنود القانونية لكي نعتمد بنودا قانونية متينة وصحيحة في جميع المجالات، ويمكن بمزج الاتفاقيتين أن نضع إطارا قابلا للتعايش، ولكن كمنطلق فقط، لأن تعايشنا له أهداف ومقاصد ترمي إلى أكثر من اتفاقية كهذه، فالإدماج الروحي والروحاني والبشري يجب أن يكون إدماجا تاما»، وقد بين جلالته هذه الفكرة في تصريح آخر إذ قال: «إن الاتحاد العربي الإفريقي يعتبر إطارا مفضلا بالنسبة للمغرب العربي، وأنه سيذوب في الإطار الأكبر، وإذا كانت هناك بعض التحفظات، فإننا نعتبر إطار معاهدة الاتحاد الحد الأدنى على الصعيدين القانوني والاقتصادي وعلى مستوى المبادلات الثقافية والمحافظة على السيادة. فليس هناك تنافر في هذا المجال فالأمر يتعلق باختيار الإطار الأفضل، فإذا نحن أوجدنا ما هو أحسن من الاتحاد العربي الإفريقي، فإن هذا الاتحاد سيذوب في إطار سيكون أفضل»».
يتابع الملك محمد السادس في هذا الجزء من بحثه مستخلصا: «كل هذه المسائل أو التصريحات السالفة تؤكد الرغبة الصادقة لطرفي الاتحاد العربي الإفريقي في بناء المغرب العربي عن طريق عمل اتحادي يجمع بين الدول المغاربية الخمس سواء عن طريق انضمام الدول المغاربية الأخرى إلى هذا الاتحاد، أو عن طريق وضع إطار قانوني جديد. غير أن هذه الرغبة لا تقابلها رغبة مماثلة لدى من يصطنع المشاكل ويجند الانفصاليين ويقوم مقامهم في المحافل الدولية والجهوية، وكما قال رئيس الدبلوماسية الليبية في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة المشار إليه سابقا: «إن محاولة عرقلة الوحدة العربية واستغلال المبادئ النبيلة لإخفاء أغراض الهيمنة ونزعة التسلط لا يمكن أن يكتب لها النجاح»».