الملفات السرية عن شيخ العرب
يونس جنوحي
اسمه أحمد فوزي، وهو الاسم الذي حمله في الأوراق الثبوتية. لكنه عرف أكثر بـ«شيخ العرب»، لقبه الحركي الذي كان يجعل الدم يغلي في عروق أغلب من عرفوه وتأسفوا على المصير الذي آل عليه عندما دخل في حرب مواجهة ضد النظام، معلنا قيادته لعمليات مسلحة استهدفت بعض الرموز الذين انتقم منهم قدماء المقاومة بعد الاستقلال.
ارتبط اسمه بالسلاح، وحرب الدولة ضد المنشقين من قدماء المقاومة وجيش التحرير بعد سنة 1956، حيث كانت التهمة الموجهة إليهم تتعلق بالتخريب واستعمال سلاح غير مرخص والتخطيط لعمليات تستهدف الأمن العام.
لكن في عيون أحمد أكوليز، وهو اللقب الذي حصل عليه لتمييزه عن مقاومين آخرين كانوا يحملون اسم «أحمد»، فتمت مناداته بلقب «أكوليز» نسبة إلى مسقط رأسه في الجنوب المغربي، فإن الأمر كان يتعلق بانتقام لأصدقائه ورفاقه الذين اعتقلوا وأدينوا في مناسبتين: الأولى خلال سنة 1960 في ما عرف وقتها بتهمة التآمر على اغتيال ولي العهد، وهو الملف الذي حله الملك الراحل محمد الخامس وأطلق سراح كل المتابعين، لعدم وجود أدلة مادية على ضلوعهم في مؤامرة من ذلك النوع. والثانية خلال اعتقالات يوليوز 1963، عندما حُكم على أصدقائه بالإعدام وسنوات سجن طويلة، فقرر أن ينتقم لهم من منفاه في الجزائر، حيث استنكر على بعض قدماء المقاومة استفادتهم من الامتيازات، وقرر أن يحمل السلاح لكي ينتقم، ويقود «ثورة» وقودها أربعة أفراد فقط.
هناك من استسهلوا شخصية شيخ العرب وقالوا إنه مجرد رجل عادي كان قد تورط في مقتل «مخزني» بالجنوب، وفر إلى الدار البيضاء لكي يلتحق بصفوف المقاومة. بينما متعاطفون مع ذكراه وصفوه بالمقاوم الذي دفع حياته ثمنا لالتزامه بمبادئه.. هو شيخ العرب إذن.
أسطورة رجل قتله أصدقاؤه
قالوا إنهم التقوا «شيخ العرب»، أو «أحمد أكوليز»، أو أيضا أحمد فوزي، وهذا اسمه في الأوراق الثبوتية. وكذبوا بعضهم البعض.
لم يكن هؤلاء غير قدماء المقاومة وجيش التحرير، خصوصا في المنطقة الجنوبية. حيث زعم كل واحد أنه كان صديقا حميما لشيخ العرب. بينما كان أصدقاؤه الحقيقيون مدفونين معه، ببساطة. لأنهم رافقوه في السلاح وفي المصير.
أحد الذين ذكروا أنهم التقوا شيخ العرب كان أحد أعضاء المقاومة السابقين، بوشعيب الحياوي، الذي توفي قبل سنوات، حيث قال إنه التقى شيخ العرب بشكل سري في الدار البيضاء، وكان متنكرا في جلباب ويحمل معه مسدسا.
شيخ العرب تعرف على الحياوي بحكم سابق معرفة بينهما، من أيام خلايا المقاومة بالدار البيضاء.
حيث كان الحياوي يقف في صف طويل بالرباط مع جملة من قدماء المقاومة وأرامل المقاومين، حيث كانوا يحصلون على مبلغ إعانة دوري لم يكن وقتها يتجاوز 200 درهم.
وبينما كان الحياوي في صف الانتظار اقترب منه شيخ العرب ولم يتعرف عليه في البداية، إلى أن عدل «قب» الجلباب وخاطبه بلقبه، ليتعرف عليه الأخير بسهولة. وقبل أن ينتبه الآخرون إلى وجوده، نهر شيخ العرب، بوشعيب على وقوفه الطابور واستنكر أن يكون قدماء المقاومة قد شاركوا في معركة تحرير المغرب ليكون هدفهم في الأخير هو الحصول على الإعانات من الدولة.
آخرون قالوا إنهم التقوا شيخ العرب بطرق مشابهة، وهو ما يجعل رواياتهم موضوع تكذيب من طرف بعضهم البعض، خصوصا سنة 1964 التي كان فيها اسم شيخ العرب مقترنا بالإثارة. إذ إن بعض الذين كانوا معجبين ببطولاته لم يكونوا يخفون رغبتهم في لقائه، بل وتوفير مأوى له، رغم تبعات ما قد يجنيه عليهم ذلك التعاطف.
من بين الذين قالوا إنهم التقوا شيخ العرب في عز حملة البحث عنه ورصد مكافآت لمن يقدم إفادات عن مكان وجوده، نجد المقاوم النوحي الأقاوي، الذي يتقاسم مع شيخ العرب الانتماء إلى منطقة الجنوب، حيث عاصرا معا انطلاقة عمليات جيش التحرير.
يقول هذا الأخير في مذكراته التي أصدرها في كتابين سنة 2012 و2015، إنه التقى شيخ العرب عندما كان يعمل في صحيفة «العلم»، كان وقتها شيخ العرب قد عاد لتوه من الجزائر متخفيا، معتزما القيام بعمليات مسلحة.
إذ إن الأخبار التي وصلت إلى المغرب سنة 1964 تقول إن صراعا كبيرا نشب بين قدماء المقاومة اللاجئين في الجزائر، وصل حد الاشتباك بالأيدي والتوعد بالتصفية الجسدية،
حيث كانوا يتابعون أخبار المغرب ولم يتقبلوا أن يكون رفاقهم قد أدينوا بالإعدام وأحكام السجن الطويلة، وهنا نشب خلاف بين شيخ العرب وبعضهم بشأن الخطوة التي يجب اتخاذها.
إذ أحس شيخ العرب أن هناك أطراف داخلية تبث خطابا من التيئيس والتنويم، حيث فضلوا البقاء عالة على النظام الجزائري الذي وفر لهم المأوى، مستفيدين من وضعيتهم كهاربين سياسيين من تهم تتعلق بأمن البلد.
بينما كان تيار شيخ العرب يؤكد أن الوقت قد حان لخوض معركة مسلحة للانتصار للرفاق المحكومين بالإعدام، والذين استفادوا لاحقا من عفو ملكي طوي على إثره الملف سنة 1965.
وهكذا قرر شيخ العرب أن يدخل إلى المغرب متسللا عبر الحدود لاستكمال أنشطة المقاومة التي كان نشيطا بها قبل الاستقلال، وكان يؤكد لرفاقه أن أذناب الاستعمار ما زالوا موجودين في المغرب وأنه يجب التخلص منهم جميعا.
هناك روايات أخرى تقول إن بعض قدماء المقاومة الهاربين إلى الجزائر ومنها إلى باريس، مقابل الحصول على امتيازات من الأجهزة السرية، سربوا معلومات بشأن شيخ العرب للبوليس السري المغربي، انتقاما منه وردا على التشنج والصراع الذي نشب بين مكونات قدماء المقاومة أثناء لجوئهم إلى الجزائر. لكن هذه تبقى فرضية يصعب جدا التحقق منها، إن لم يكن مستحيلا.
العملية صعدت بالدليمي للقمة
سوف نرى في هذا الملف كيف أن تقارير «CIA» الأمريكية كانت قلقة بشأن طموح الكولونيل أحمد الدليمي سنة 1964، حيث رصدت الاستخبارات المركزية الأمريكية عمليات مالية ضخمة أشرف عليها أحمد الدليمي، بصفته مسؤولا أمنيا مغربيا رفيعا، وكان وقتها يعمل تحت إمرة الجنرال أوفقير، لكنه كان يشق طريقه منفردا منذ ذلك الوقت.
بالنسبة إلى الرأي العام الوطني والدولي، فإن اسم الكولونيل الدليمي لم يبرز إلا بعد ملف اختفاء المعارض المهدي بن بركة في نهاية أكتوبر 1965، لكن بالنسبة إلى المخابرات الأمريكية فإن اسم الكولونيل الدليمي أصبح موضوع مراقبة منذ أن قاد عملية البحث عن شيخ العرب، حيث رصد مبالغ مهمة لتمويل عمليات مراقبة قدماء المقاومة المغربية في الداخل والخارج، بل وصرف تعويضات لبعض المخبرين الذين كانوا يتجولون باستمرار بين العاصمة الجزائرية والفرنسية، مع ما تتطلبه كل تلك التنقلات من مصاريف وحجوزات في الفنادق، بالإضافة إلى مبالغ رشاوى لبعض قدماء المقاومة ومخبرين آخرين داخل الجزائر. كل هذا كان الهدف منه إسقاط أحمد فوزي، شيخ العرب، في شرك جهاز «الكاب 1».
إذ إن أحمد الدليمي أصبح المسؤول الأول عن عمليات المخابرات المغربية، مباشرة بعد أن طوي ملف شيخ العرب، بينما أضحى الجنرال أوفقير مديرا عاما للأمن الوطني في الأسبوع نفسه الذي سقط فيه شيخ العرب بالرصاص في الدار البيضاء.
لماذا كان هذا الرجل غاية في الأهمية أمنيا؟ إذ إن عمليات اعتقال واختفاء معارضين مغاربة آخرين، لم ترتبط بترقيات من هذا الحجم مثل ما ارتبطت عملية تصفية شيخ العرب بتربع الجنرال أوفقير على قمة الجهاز الأمني في المغرب.
أما الكولونيل أحمد الدليمي، فقد أصبح أكثر أهمية في عيون الأمريكيين، لأنه وهذا ما لا يعرفه الكثيرون، كان قد عاد لتوه من تكوين عالي المستوى في المجال الأمني من بريطانيا، وكان ملف شيخ العرب فرصته لكي يثبت لمنافسيه على السلطة أنه سيكون الأجدر، وأن التكوين الذي تلقاه في لندن قد بدأ يؤتي أكله.
لكن الحقيقة أن ملف أحمد أكوليز، نسبة إلى مسقط رأسه في منطقة أكوليز نواحي طاطا، كان أكثر تعقيدا، إذ لولا ثقته في مرافقيه ووشاية عائلية بشأن المنزل الذي اختاره ليصبح مخبأ له، لما وصلت إليه يد الكولونيل أحمد الدليمي في ذلك اليوم الصيفي من غشت 1964.
خيوط كثيرة و«رجل واحد»
كان اسمه يثير التوجس في الدار البيضاء على وجه الخصوص. طيلة سنة 1964، كانت أخبار ظهوره في مكان ما، خصوصا قرب حافلات «أيت مزال»، حيث كان السوسيون المتوجهون من الدار البيضاء إلى قراهم التي كانت معقلا لجيش التحرير المغربي في الجنوب، تثير استنفارا لمختلف الأجهزة الأمنية التي كانت تتعقبه.
لكن المثير في ملفه، أن المواصفات التي كانت تقدم بشأن مظهره، كانت تتغير في كل مرة. فأحيانا كان يتنكر بزي تقليدي، وأخرى في بذلة رسمية، وأحيانا يظهر بمظهر عادي جدا، بلحية وبدونها، وهو ما عقد عملية الوصول إليه، بل وجعلها مستحيلة.
ففي الوقت الذي وصل خبر وجوده في الدار البيضاء، كانت الأجهزة السرية في المغرب لا تزال تعتقد أنه يوجد في مراكز التدريب في الجزائر.
وظن الجنرال الدليمي، حسب ما جمعته وثائق «CIA»، أن خبر نشاط «المخربين» بعد مؤامرة يوليوز 1963، انتقاما لأصدقائهم، كان مجرد إشاعة أو أخبار كاذبة يُدلي بها المخبرون طمعا في تعويضات مالية إضافية.
وهذا ما ورد في مذكرات «القصص المنسية لـCIA» التي صدرت في تسعينيات القرن الماضي. إذ إن الجنرال الدليمي سنة 1964 بصفته مسؤولا في المخابرات المغربية، كان يصرف مبالغ ضخمة على المخبرين، وهو ما استرعى انتباه مسؤولي الاستخبارات المركزية الأمريكية. إذ إن طموح الدليمي كان يزداد، ولا أحد كان يعلم أن واحدة من أهم نقاط ترقيه المهني كانت مرتبطة بملف «شيخ العرب».
اتضح مع مرور الوقت أن وجود «شيخ العرب» في الدار البيضاء لم يكن مجرد إشاعة روجها المخبرون، سيما عندما تحدث بعض موظفي الداخلية، القياد على وجه الخصوص، إلى الكولونيل أحمد الدليمي، وأخبروه أن بعض أعوانهم حذروهم من تهديد شفهي تلقوه من أصدقاء شيخ العرب، حيث أقسم أن يقوم باغتيالهم لأنهم كانوا يتعاونون مع الحماية الفرنسية قبل سنة 1956. ومنهم من كانوا من جملة الموقعين على العريضة المطالبة بنفي الملك الراحل محمد الخامس، لكن بقدرة قادر بقوا في مناصبهم بعد حصول المغرب على الاستقلال، رغم أن بعض قدماء المقاومة احتفظوا لهم بذكريات سيئة عن الوشايات ومساعدة البوليس الفرنسي على اعتقال بعض المقاومين، خصوصا في القرى.
بات وجود «شيخ العرب» أو «أكوليز» في الدار البيضاء، حقيقة لا غبار عليها، ما دام بعض المخبرين قد أكدوا ظهوره في مقهى بدرب السلطان، وفي محل لبيع الملابس التقليدية في منطقة الحبوس، وفي أحد «كراجات» إصلاح السيارات الذي كان يسيره أحد قدماء المقاومة وأعضاء جيش التحرير في الجنوب.
وهكذا بدأت المداهمات لمنازل كل من كانت لهم صلة بقدماء المقاومة الذين فروا إلى الجزائر ما بين اعتقالات 1960 ومؤامرة يوليوز 1963، حيث تم إعداد لوائح انطلاقا من محاضر الاستماع إلى المتهمين، وانطلقت عملية تمشيط لاقتفاء أثر شيخ العرب.
مطاردات «هوليودية» في قلب البيضاء
اتضح للشرطة السرية أن شيخ العرب لم يكتف بالدخول إلى المغرب متسللا من الحدود الجزائرية الشرقية، وإنما أحضر معه أيضا كميات من السلاح، مستعينا بها لتنفيذ مخطط إعادة جمع شمل قدماء المقاومة من أصدقائه لاستهداف عدد من الأسماء التي كان كل قدماء جيش التحرير ينعتونهم بـ«الخونة».
وهنا، في بداية سنة 1964 بدأت الشرطة توزع منشورات تحمل صور شيخ العرب ومعه بعض رفاقه، الذين تأكد أيضا أنهم يوفرون له الحماية وأن معظمهم دخلوا معه إلى المغرب، بينما آخرون قرروا البقاء في الجزائر بعد أن نشب صراع بينهم وبين شيخ العرب حول مسألة العودة إلى المغرب في ذلك الظرف التاريخي الحساس، حيث كانت وقتها قد صدرت أحكام الإعدام في حق 11 شخصا، منهم عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري وسعيد بونعيلات وعمر بنجلون.
في الفترة ما بين مارس، وبالضبط 14 منه، أي يوم صدور الأحكام، وبين يونيو، أول فرصة لاعتقال شيخ العرب والتأكد فعلا أنه موجود بالدار البيضاء، كان الخناق يضيق يوميا على مجموعة شيخ العرب.
وتلقى نصائح من بعض المتعاطفين معه لكي يفر في اتجاه إقليم طاطا، مسقط رأسه، لكنه رفض مخافة أن يتم اعتقاله بسهولة هناك، وفضل الاحتماء في الدار البيضاء، حيث بقي يتنقل متخفيا.
لكن وتيرة عمل البوليس السري، ونقل الملف إلى اختصاص الأمن الوطني، ضيق الخناق أكثر على شيخ العرب. إذ أصبحت صوره تقريبا في كل مكان، وتم استعمال التلفزيون أيضا لتسهيل الإيقاع به، حيث كان يتم تعميم بعض النشرات السريعة التي تقدمه للرأي العام على أنه مجرم خطير يجب مساعدة الأمن على الإطاحة به.
ولأن الإشاعات كانت تتناسل في ذلك الوقت، منها أمور لم تكن صحيحة، مثل أن شيخ العرب يظهر في المقابر أو في الأماكن المهجورة، فقد كانت عملية الوصول إليه ما زالت معقدة.
إلى أن حل 7 يونيو 1964، وهو اليوم الذي كان مشهودا بالنسبة إلى الكولونيل أحمد الدليمي، الذي لم تكن تفصله عن الترقية المهنية سوى أسابيع قليلة يحول بينه وبينها شيخ العرب.
في ذلك اليوم توصلت مصالح الأمن بإخبارية تفيد بأن شيخ العرب ورفاقه متخفون في شقة بحي «لارميطاج» بالدار البيضاء. وفعلا تمت محاصرة المنزل، وحصل تبادل لإطلاق النار بين المحاصرين ورجال البوليس، الذين كان معهم عناصر من جهاز «الكاب 1» الذي يشرف عليه الجنرال أوفقير.
وما وقع أن أحمد الدليمي تأكد فعلا أن الأمر يتعلق بشيخ العرب، ما دام المحاصرون بالمنزل تبادلوا إطلاق الرصاص مع الأمن.
والخبر الذي لم يرق للدليمي، أن شيخ العرب قد لاذ بالفرار، وهنا بدأ فصل آخر من فصول المطاردة، خصوصا وأن ثلاثة من رجال الشرطة سقطوا برصاص شيخ العرب ورفاقه.
وفي اليوم الموالي، حسب ما يوفره أرشيف الأنباء في المكتبة الوطنية بالرباط، فإن وزارة الأنباء عممت بلاغا تحمل فيه مسؤولية وفاة رجال الشرطة الثلاثة لشيخ العرب ورفاقه، وازدادت وتيرة تعميم مذكرات البحث عن شيخ العرب ورفاقه، إلى درجة أن بعض أعضاء جيش التحرير في الجنوب كانوا في مأزق حقيقي بسبب مراقبة الأجهزة السرية اللصيقة لهم، مخافة أن يحدث اتصال بينهم وبين شيخ العرب، لكن المثير أن شيخ العرب تم اعتقاله بطريقة أخرى لم تكن متوقعة نهائيا.
الليلة المشهودة للقبض على «الأسطورة»
لم يكن يوم 7 غشت 1964 مجرد يوم عادي في الدار البيضاء، فقد كانت المدينة تعيش على إيقاع استنفار أمني، وإخباريات متلاحقة عن تحركات مشبوهة لبعض أعضاء المقاومة.
إذ أحس قدماء جيش التحرير بالإهانة، وهم يتلقون خبر مقتل أربعة من رفاقهم بالرصاص، حيث وجدت جثامينهم مرمية في مناطق متفرقة بالعاصمة الاقتصادية وأثار الطلقات النارية بادية على أجسادهم. وكان أشهرهم، بالنسبة إلى المقاومين، هما أشويض، وبوزاليم. وفهم قدماء المقاومة سريعا روايات متطابقة، أن الأمر يتعلق بانتقام من الأجهزة السرية.
رغم أن البلاغ الرسمي الذي وزعته وزارة الأنباء يقول إن الأربعة قتلوا برصاص شيخ العرب ورفاقه.
لكن المتابعين لخبايا صراع قدماء المقاومة وجيش التحرير في الجنوب مع الأجهزة السرية، كانوا يعرفون جيدا أن الأسماء الأربعة كانوا من جملة المختطفين في مراكز الاعتقال السرية. بل إن جلسات الاستماع في 2001 في إطار الإنصاف والمصالحة، أكد بعض الأشخاص فيها أن رفاقهم الأربعة كانوا معتقلين في مراكز الاعتقال السرية يتعرضون للتعذيب، فكيف وصل إليهم شيخ العرب وقتلهم؟
وهكذا كان الجواب واضحا. لا بد وأن البوليس السري أراد تأليب قدماء المقاومة ضد شيخ العرب، لقطع خيط التعاطف معه باعتباره أحد أبطال المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي.
لكن الحيلة في الحقيقة لم تنجح، إذ ازداد التعاطف مع شيخ العرب في صفوف قدماء المقاومة، واعترف بعضهم لاحقا، بعد سنوات طويلة، بأنهم التقوا شيخ العرب في أماكن سرية، ومنهم من أعطاه المال دعما له ووفر له غطاء للتنكر.
وعندما حل يوم 7 غشت المشهود، كان الخناق يضيق أكثر حول شيخ العرب إلى درجة أنه قضى أسابيع دون أن يغادر منزلا صغيرا في منطقة سيدي عثمان بالدار البيضاء.
وحسب اعترافات رفاقه القدامى، فإن تلك كانت غلطة الشاطر بالنسبة إلى شيخ العرب. إذ في السنوات التي كان يتنقل فيها بين الدار البيضاء والرباط متنكرا، كان الوصول إليه مستحيلا. لكن عندما اختار أن يختبئ في أحد المنازل بشكل قار إلى أن تهدأ الأوضاع، لم يضرب حسابا للوشايات التي قد تستهدفه ممن كانوا معه أو ممن علموا بوجوده في المنزل، حيث إن ساعات اختبائه كانت تزداد معها قيمة المكافآت المرصودة لمن يبلغ عنه.
وهكذا وصلت معلومات إلى مكتب الجنرال أوفقير والكولونيل الدليمي تفيد بأن شيخ العرب مختبئ في منزل بسيدي عثمان بالدار البيضاء، رفقة أعضاء تنظيمه السري، وتم تطويق المنزل بإنزال أمني كثيف جدا، بحيث ضمن الكولونيل الدليمي ألا يتكرر سيناريو المرة السابقة في «لارميطاج».
وهكذا وجد شيخ العرب نفسه محاصرا، دون أي فرصة للنجاة رغم أنه كان يتوفر على سلاح. لكنه كان أمام واقع نفاد مخزون الرصاص لديه ولدى رفاقه، وهكذا ماتوا جميعا في تبادل إطلاق النار، حيث تقول بعض الإشاعات التي لم يتسن التأكد منها إن الكولونيل الدليمي كان حاضرا في عين المكان، وعاين جثة شيخ العرب.
قتل إذن شيخ العرب ورفيقه أزناك الذي كان متخفيا معه، والذي دفع معه ثمن الثقة التي أولياها لبعض قدماء المقاومة الذين دبروا لهما المنزل في سيدي عثمان، ثم وشى بهما واحد ممن كانوا يعرفون السر لاحقا.
جناح الغرباء بمقبرة «سباتة».. هنا يرقد جثمان شيخ العرب اليوم!
ماذا وقع عندما تم اغتيال «شيخ العرب» ومن معه؟ كان هناك اختلاف حتى في أعداد الذين ماتوا في ذلك اليوم. إذ إن بعض الأطراف تحدثوا عن مجزرة بشكل مبالغ فيه، بينما البلاغ الرسمي تحدث عن نهاية أكوليز أو شيخ العرب، بالإضافة إلى أحد معاونيه. بينما كان سكان سيدي عثمان يتحدثون عن مواجهة على طريقة الأفلام وتدخل لمقاومين آخرين لتخليص صديقهم من قبضة الأمن، لكن تلك المعطيات لم تكن صحيحة بالمرة.
وهكذا كان صعبا معرفة المآل الحقيقي لجثمان شيخ العرب ورفاقه. إلى أن حلت سنة 2005، حيث التقى امبارك بودرقة مع أسرة شيخ العرب ممثلة في ابنته وابنه وزوجته، والذين غادروا المغرب صوب فرنسا دون أن ينسوا المأساة التي عاشوها بسبب أنشطة شيخ العرب والطريقة التي عُولج بها ملفه. خصوصا وأن ملفات رفاقه الذين لم يكونوا يقلون عنه في درجات التهم التي وجهتها إليهم الدولة في الحقبة نفسه وخطورة عن الاتهامات التي لاحقت شيخ العرب. لكنهم في النهاية استفادوا من طي صفحة الماضي، وعادوا إلى المغرب في إطار تسوية ملفات سنوات الرصاص.
أحد الذين اشتغلوا عن قرب على ملف شيخ العرب، كان هو امبارك بودرقة، حيث يحكي هذا الأخير في شهادات كتاب «كذلك كان»، وهو مذكرات خطها بودرقة رفقة أحمد شوقي بنيوب، وتناولا فيها أهم الملفات التي عالجتها الهيأة أثناء تسوية ملفات ضحايا سنوات الرصاص.
حيث كانت العصوبة الكبرى تتمثل في الوصول إلى قبر شيخ العرب، وتحديد مكانه، بحكم أن عائلته لم تكن تعرف أي شيء عن مكان دفن جثمانه بعد انتهاء المواجهات مع الشرطة.
العملية، كما سوف نرى في شهادة امبارك بودرقة، لم تكن سهلة أبدا. إذ كان الأمر يتطلب التنقيب في الأرشيف والمحاضر الرسمية لتحديد مآل الجثمان أولا بأول، أي انطلاقا من نقله من سيدي عثمان وإلى أي مستودع للأموات تم نقله.
كان رفاق شيخ العرب القدامى يقولون إن جثة رفيقهم لا بد وأن تكون أذيبت في الأسيد داخل أحد المراكز السرية للتعذيب، بينما ذهبت روايات أخرى للقول إن الذين لاحقوا شيخ العرب للإيقاع به طيلة تلك السنوات سوف ينتقمون من جثته برميها في البحر. لكن شيئا من هذا لم يقع.
إذ إن شهادة بودرقة يقول فيها إنه وجد في الأرشيف ترقيما لمحضر معاينة الجثة وكذا مآلها إلى المقبرة، وبالتالي أصبح ممكنا تحديد مكان القبر بدقة. يقول:
«تطلب البحث عن مكان دفن شيخ العرب وأماكن دفن رفاقه، إجراء عدة أبحاث وتحريات، إذ قامت هيأة الإنصاف والمصالحة بفريق يضم صلاح الوديع ومصدق بالعديد من الزيارات الميدانية والاطلاع على السجلات في المستشفيات وسجلات مصالح حفظ وسجلات المقابر، والاستماع إلى العديد من الشهود من قدماء المعتقلين وحفاري القبور، ورجال السلطة من الذين أحيلوا على التقاعد والقلة التي ما زالت تمارس مهامها منهم.
وأفضت التحريات إلى أن جثمان شيخ العرب تم نقله في اليوم نفسه، أي 7 غشت 1964، إلى مصلحة حفظ الموتى بالدار البيضاء على الساعة الحادية عشرة و35 دقيقة، وسجل تحت رقم 295L ، على أساس أنه مصاب برصاصة في صدره، وبالمصلحة ذاتها تم إيداع جثمان أحمد أزناك مسجلة تحت رقم 296L ، بداعي الإصابة برصاصة في رأسه.
كما اطلع فريق التحريات لهيأة الإنصاف والمصالحة على السجل نفسه ليوم 8 يونيو 1964، أي غداة تصفية رفاق شيخ العرب الأربعة، وتبين أنهم نقلوا إلى المصلحة الساعة الثامنة صباحا و45 دقيقة، وتم تسجيل عبد الله بنسي تحت رقم 217L ، وعبد الله كجاج بوزاليم تحت رقم 218L ، والحاج أحمد أشويض تحت رقم 219 L، وعبد الله المصلحة کاکاز تحت رقم 220 .L
وتأكد من خلال تتبع مسار نقل هذه الجثامين، أن الدفن تم في جناح الغرباء بمقبرة سباتة بالدار البيضاء. ولتحديد المقابر قررت الهيأة إخبار العائلات، وكلف المرحوم إدريس بنزكري، بودرقة بمهمة إخبار عائلة شيخ العرب المقيمة في فرنسا.