المقاولة التشريعية
ليس هناك من كلمات معبرة عن الطريقة التي أعاد بها مجلس المستشارين مقترح قانون إلغاء معاشات أعضائه لمجلس النواب سوى بـ «إهانة المؤسسات الدستورية». فما معنى أن تعيد الغرفة الثانية مقترح توزيع 12 مليار سنتيم من أموال المعاشات لمجلس النواب بنفس الصيغة التي سبق له أن صوت عليها ضده؟ وما معنى أن تصوت الغرفة الأولى على نفس القانون بنفس المواد تارة بالرفض وتارة أخرى بالقبول؟ نحن إذن أمام صورة تسيء لمؤسسات البلاد على مقربة أسابيع من الاستحقاقات الانتخابية وتحول البرلمانيين إلى حرفيين يفصلون القوانين على مصالحهم حتى تحول البرلمان من مؤسسة تشريعية إلى مقاولة لصناعة التشريع على المقاس.
وبالرغم من كثرة ما شهده المغاربة خلال الولايتين السابقتين من غرائب التشريع سيما تصويت الحزب الحاكم ضد مشاريع لحكومة يقودها، وفنون أبدع فيها برلمانيون أيما إبداع في تحقيق المنافع والامتيازات دون حتى أن تدون في قانون كما يفعل برلمانات العالم، لكن لم يسبق أن جرت الأمور بهاته البشاعة والاستخفاف بالمؤسسات التمثيلية التي أولاها الدستور الدفاع عن حقوق المواطنين وليس الدفاع عن امتيازات البرلمانيين.
والأكيد أن النخبة البرلمانية تدرك أن مثل هاته التصرفات تسيء إلى المشهد السياسي وتبعث على الهروب الجماعي من صناديق الاقتراع، وبدل أن تنادي تلك النخبة المغاربة بالمشاركة في الانتخابات لتقوية المؤسسات، جدير بها كممثلة عن الأمة أن تستجوب نفسها أولا كي لا تلقي بلائمة التبخيس والاستخفاف بدولة المؤسسات على غيرها، وعليها أن تتساءل هل أدت ما عليها من مهام ومسؤوليات بالوجه الذي لا تحرض سلوكاتها وقراراتها على العزوف الانتخابي؟
وما يدعو للحيرة حقا هو أن مجلس النواب يرضى طواعية بالإهانة ويقبل بتغيير تصويته مكرها تحت ضغط الابتزاز أو المجاملات دون حدوث أي تغيير يستوجب ذلك، حتى ليبدو المشهد أن المجلس يستحب الانغماس في الإهانة العلنية التي يريدها له مجلس المستشارين في الربع ساعة الأخيرة من نهاية الولاية، والمحير حقا أن تكون الغرفة الأولى موضعاً لمثل هذا الموقف المهين والمسيء دستوريا وسياسيا، رغم المكانة السامية والصلاحيات الواسعة والكلمة النهائية التي أصبح مجلس النواب يتمتع بها دستوريا مع دستور 2011. والأكثر من ذلك أن فرقا برلمانية ستضطر لتغيير مواقفها والانقلاب 180 درجة، ليس لأن مقترح القانون يهم الملايين من المغاربة ويفرض تعديل المواقف، وليس لأن المقترح سيساعد على بناء النموذج التنموي أو من شأنه أن يوسع قاعدة الحماية الاجتماعية أو سيطور من منظومة التعليم أو التشغيل، بل لأنه يهم حفنة من البرلمانيين يتشوقون لالتهام المال العام واستغلاله في الانتخابات وهذا هو أخطر ما في الأمر.
في الحقيقة كل ما أصبحنا نتطلع إليه مع هذين المجلسين هو فقط نهاية هاته الولاية التشريعية في أقرب الأوقات، قبل أن تزداد الأمور سوءا بسبب جشع المنتخبين الذين قد يدفعهم إلى ارتكاب المزيد من الحماقات التشريعية التي لن تقود سوى إلى رفع من منسوب العزوف الانتخابي.