المغرب وممتلكات «الأمير» عبد القادر الجزائري
مليونا وثيقة أرشيفية سوف تستعيدها الجزائر وبعضها مُحرج في علاقتها بالمغرب
مات الأمير عبد القادر في سوريا سنة 1883، وهو ما يُسائل الجزائريين الذين يحاولون اليوم الركوب على تاريخ الرجل، وعلاقته بالمغرب. فقد تعرضت جوانب كثيرة من حياته إلى التدليس والتزوير، بما يُسقط عنها الدور الكبير الذي لعبه المغرب في صناعة المقاومة الجزائرية، التي كان الأمير عبد القادر رمزا لها.
إذا كان الجزائريون يعتبرون أن استعادة ممتلكات الأمير عبد القادر من فرنسا انتصارا تاريخيا، فعليهم أولا أن يشرحوا لنا ما هي ممتلكات الأمير على وجه التحديد؟
هنا في هذا الملف نورد عددا من الحقائق المنسية، والتي تتعلق بارتباط الأمير عبد القادر بالمغرب، وأيضا علاقة القبائل التي حاربت معه بالسلطان المغربي.
يونس جنوحي
هل توجد فعلا ممتلكات للأمير عبد القادر؟
عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر، أصدرت الصحف الجزائرية أخبارا مفادها أن البلدين معا اتفقا على تأسيس لجنة ثنائية، تتكون من عشرة أعضاء – بالمناصفة- مهمتهم دراسة رصيد الأمير عبد القادر وممتلكاته التي جمدتها فرنسا، أيام حملتها الاستعمارية بعد مغادرة الأتراك للمنطقة، أي قبل تأسيس الجزائر.
اجتمعت اللجنة التي تأسست بمبادرة من الجزائريين في آخر زيارة للرئيس ماكرون، حيث عُرضت الفكرة ووافق عليها الطرفان، في الجزائر، وليس في باريس، للبت في موضوع توجد كل وثائقه في فرنسا وليس في الجزائر العاصمة، واتفق أعضاؤها على بدء إجراءات إعادة ممتلكات الأمير، وإنجاز «كرونولوجيا» للجرائم الاستعمارية وجردها في إطار الاعتراف بما اقترفه الجيش الفرنسي من فظاعات لسنوات طويلة، قبل احتلال الجزائر رسميا سنة 1830.
لم تحدد اللجنة نوع هذه الممتلكات، ولا توجد أي إشارة في الأرشيف ولا في الصحافة الفرنسية التي لم تعط اهتماما كبيرا للحدث، إلى نوع الممتلكات التي تعود إلى الأمير عبد القادر والتي حجزتها فرنسا. اللهم الإشارات التي تتحدث عن أرشيف من الوثائق المحجوزة عند سيطرة فرنسا على المناطق التي كان يقودها الأمير عبد القادر، خلال حملة المقاومة. وهذه الوثائق كانت عبارة عن مراسلات بين الأمير عبد القادر وشخصيات مؤثرة في قبائل غرب الجزائر، بينها مغاربة. ولا بد أن ظهور هذه الوثائق قد يشكل إحراجا كبيرا للمروجين لأطروحات رافضة للدور المغربي في مؤازرة الجزائر وإنشاء المقاومة ضد الاستعمار، سواء في مرحلة 1830 أو خلال خمسينيات القرن الماضي.
الاتفاق الثنائي أكد على تسليم أزيد من مليوني وثيقة خاصة بالفترة الاستعمارية.
لا بد أن يدخل الباحثون المغاربة على الخط، خصوصا وأن الأمر يتعلق بإرث تاريخي مشترك بين البلدين. إذا كانت فرنسا سوف تعيد ممتلكات الأمير عبد القادر كما تزعم اللجنة، فما مصير ممتلكات محمد عبد الكريم الخطابي الذي نفته فرنسا ومات منفيا، إلى خارج المغرب سنة 1927، أي بعد وفاة عبد القادر بسنوات طويلة – بعيدا بدوره عن وطنه-؟
بما أن الرجلين معا رمزان من رموز المقاومة، فلماذا تشتغل اللجنة على إرث الأمير عبد القادر وممتلكاته، التي تبقى موضوع تشكيك منذ سنوات، وتترك إرث محمد عبد الكريم الخطابي الذي تشهد عليه وثائق من الأرشيف الإسباني، الذي يعتبر محايدا تماما عن أرشيف فرنسا الذي شوه معطيات تاريخية كثيرة في المنطقة؟
لا بد وأن طرح موضوع ممتلكات الأمير عبد القادر سوف يكون له بكل تأكيد ما بعده، سيما وأن عددا من الأكاذيب أحاطت بالموضوع في السنوات الأخيرة.
حينما كان خليفة مغربي يُدير أمور سكان تلمسان
عندما دخلت فرنسا إلى الجزائر قبل أن تحتلها رسميا، هرع آلاف سكان القبائل التي كان يُسيطر عليها العثمانيون إلى مبايعة السلطان المولى عبد الرحمن، خصوصا منهم سكان منطقة غرب الجزائر حاليا.
وهكذا، قرر السلطان أن يُرسل أحد أبناء عمومته، وهو مولاي علي، ونصبه خليفة له في تلمسان. ولكي تحظى سلطة هذا الأمير، الخليفة السلطاني، بدعامة عسكرية، فقد أرسل معه السلطان فوجا من جيش البخاري الشهير، الذي تحظى سمعته بهيبة كبيرة منذ أيام السلطان المولى إسماعيل.
لكن ما وقع أن فرنسا حاولت منع المغرب من حُكم الجزائر، وقصفت قواتها بذلك كلا من الصويرة وطنجة، لجعل المغاربة ينسحبون من تلمسان والمناطق الغربية المجاورة لها. اضطر السلطان مولاي عبد الرحمن إلى استرجاع خليفته، وإعادته إلى عاصمة الحكم في المغرب، وهو ما جعل الأمير عبد القادر الجزائري يحاول تعويض الفراغ الكبير الذي تركه جيش البخاري المغربي بعد الانسحاب، لكن الأمير لم يقو على مقاتلة فرنسا لوحده، وطغى عليه مد الجيش الفرنسي الذي أنزل قوات تتكون من عشرات آلاف الجنود الفرنسيين، ومعهم ترسانة ثقيلة من الأسلحة. الأمر الذي جعل الأمير عبد القادر ينسحب بقواته إلى المناطق المغربية.
لم يقف الفرنسيون مكتوفي الأيدي، فقد لاحقوا قوات الأمير عبد القادر عبر التراب المغربي، وتوغلوا إلى ما بعد وادي «تافنا»، وهو ما أغضب المولى عبد الرحمن وجهز جيشا قويا للتصدي للقوات الفرنسية وإجبارها على مغادرة نفوذه، وعين ابنه سيدي محمد على رأس الجيش المغربي في هذه العملية العسكرية، ووقعت مواجهة كبيرة بين الجيش المغربي والقوات الفرنسية، لكن الأحداث جرت بما لا يوافق مصلحة المغرب، سيما وأن الجيش الفرنسي استعمل مدفعيات لم يكن المغرب يتوفر على ما يُنافسها أو يحد من تأثيرها، وكانت النتيجة النهائية أن المغرب وقع اتفاقا تاريخيا مع فرنسا بوقف الحرب وعدم التدخل. وقد سجلت وثائق تاريخية عديدة هذه الوقائع، ومنها ما سجله أساتذة جزائريون، قالوا إن فرنسا تعبت من ملاحقة الأمير عبد القادر، لكن هؤلاء المؤرخين الجزائريين لم يتطرقوا إلى الدور الذي لعبه المغرب قبل توقيع الاتفاقية مع فرنسا، وذكروا أحداث لا يوجد لها أي أثر عند المؤرخين المغاربة.
وهو ما يعني أن هؤلاء المؤرخين كذبوا على التاريخ وعلى الأمير عبد القادر أيضا. فقد ذكروا أن الأمير عبد القادر انتصر على فرنسا، واستعانت هذه الأخيرة بالجيش المغربي لتطويق قوات الأمير عبد القادر، وهو ما لا يوجد أي دليل تاريخي على صحته، خصوصا وأن المؤرخين المغاربة الكبار الذين تطرقوا إلى أبرز أحداث القرنين 18 و19، ذكروا محطات كثيرة من مؤازرة المغرب للمقاومة ضد نشر فرنسا قواتها في الجزائر، ولا توجد أي مؤشرات أو أدلة على وقوع أحداث من قبيل تحالف المغرب مع فرنسا. فقد كان هذا التحالف مستحيلا، ليس بقوة العقل فقط، وإنما أيضا بقوة منطق الأحداث التاريخية التي وقعت، والتي تؤكد جميعها أن المغرب ذاق نصيبه من بطش الجيش الفرنسي، بسبب مناصرة المغاربة للأمير عبد القادر. فهل فعلا إرث هذا الأمير كان جزائريا مائة بالمائة، أم أن للمغاربة نصيب أيضا من رمزية هذا المجاهد الذي حارب فرنسا في الفترة نفسها، التي أظهر فيها مقاومون مغاربة شجاعة كبيرة في مواجهة الجيش الفرنسي وسخروا قبائلهم المغربية في نصرة إخوانهم الجزائريين، الذين لم تكن تفصلهم عنهم سوى كيلومترات قليلة، في زمن لم يكن فيه أي اعتراف بحدود بين البلدين المغرب والجزائر؟
++++++++++++++++++++++++++++++
دعم عبد القادر واحتضانه.. التهمة التي لاحقت المغرب سنة 1836
بمجرد أن وصل اسم الأمير عبد القادر إلى المغرب الشرقي، خصوصا نواحي مدينة وجدة، حتى حدث نقاش كبير بين علماء المغرب ومثقفيه من فقهاء ومستشارين لدى السلطان، بسبب إقدام المغرب علانية على دعم الأمير عبد القادر الجزائري في حربه ضد الاستعمار الفرنسي.
وسبب النقاش، أن هؤلاء العلماء ومستشاري السلطان خافوا من تبعات استغلال فرنسا لاتفاقية قديمة كان المغرب قد وقعها سنة 1767، وهذه الاتفاقية كانت تقضي بامتناع المغرب عن تقديم أي مساعدة كيف ما كانت إلى كل من الجزائر وتونس وطرابلس الليبية، عند دخول هذه الدول في حرب مع فرنسا. وهذه الاتفاقية التي وُقعت في سياق تاريخي خاص، كانت بمثابة عرقلة حقيقية لتنفيذ «الواجب» الذي كان يراه أغلب من يحيطون بالسلطان، ونصرة للمسلمين. حتى أن هذه «النصرة» كلفت المغرب غاليا.
بالعودة إلى ما وقع بسبب استحضار الاتفاق، فإن ما تخوف منه مستشارو السلطان حدث بالفعل. ففي سنة 1836، راسل الفرنسيون فعلا القصر الملكي في فاس، وذكروا السلطان أن المغرب قد سبق أن وقف اتفاقيتين، الأولى سنة 1682، بعد وفاة المولى إسماعيل وانتقال الحكم إلى أبنائه، والثانية سنة 1767، عندما تميز المغرب نوعا ما باستقرار سياسي جعل منه قوة إقليمية لم تر فرنسا بُدا من الجلوس معها إلى طاولة المفاوضات، لتوقيع اتفاق عسكري وسياسي بهذا الحجم.
هذا التذكير الفرنسي، كان ينطوي على لهجة من الوعيد، سيما وأن البند الموقع سابقا يمنع صراحة على المغرب تقديم مساعدات إلى القبائل، التي ترفض العمليات العسكرية الفرنسية في منطقة وجود العثمانيين.
لكن هؤلاء الفرنسيين كانوا أمام مشكل يتعلق بالحدود مع المغرب، إذ كان لديهم تصور مختلف تماما عن تصور العثمانيين.
وللإشارة، فإنه لم يكن هناك أبدا أي ذكر تاريخي للحدود المغربية الجزائرية، بحكم أن اسم الجزائر كبلد لم يكن متداولا نهائيا، قبل مجيء فرنسا إلى المنطقة. وهكذا فإن ما عرف وقتها هو الحدود «العثمانية المغربية»، واستبدلتها فرنسا في رسالتها إلى المغرب بالحدود «الفرنسية المغربية».
لأن القبائل المغربية التي كانت تدعم الأمير عبد القادر في عمليات مقاومته للاحتلال الفرنسي لم تكن أساسا تعترف بالحدود العثمانية، وكانت تعتبر القبائل التابعة للأمير عبد القادر، إخوانا للقبائل المغربية. وبعض القبائل الواقعة في التراب العثماني سابقا، خصوصا القبائل الواقعة في المنطقة الغربية للجزائر، بمحاذاة وجدة وجنوبها في اتجاه الصحراء الشرقية المغربية، كانوا يعتبرون أنفسهم مغاربة. كما أن بعض القبائل الواقعة هناك، كانوا يعتبرون أنفسهم تابعين لزوايا وأولياء صالحين مغاربة لا تبعد أضرحتهم سوى كيلومترات قليلة عن وجدة المغربية.
مشكلة الحدود زادت من تعميق تنزيل مقتضيات الاتفاق المغربي مع فرنسا. حتى أن مستشاري القصر أنفسهم، رأوا أن ما يفعله السلطان هو الصواب بعينه، وأن دعمه للأمير عبد القادر، ليس إلا التزاما من السلطان بتعاليم الدين الإسلامي وممارسة لصلاحياته، باعتباره راعيا لشؤون المسلمين، بغض النظر عن الحدود الاستعمارية التي وضعها العثمانيون، وبعدهم الفرنسيون. وهي نفسها الحدود التي سوف تتمادى فرنسا في ترسيمها بعد احتلال البلاد رسميا سنة 1830، أي ست سنوات قبل مراسلة المغرب بشأن دعم الأمير عبد القادر.
المغاربة قدموا للأمير ما لم تُقدمه له القبائل التي كان يمثلها..
هناك حقائق تاريخية ظاهرة، وأخرى مزعجة. هذه الأخيرة هي التي أقبرت وغُيبت قسرا عن واجهة عرض الحقائق التاريخية، التي تظهر بين الفينة والأخرى كلما أثير موضوع المقاومة الجزائرية، بعد انسحاب العثمانيين من أراضي الجزائر ودخول فرنسا مباشرة على الخط.
هذا التاريخ الذي يُسبب إحراجا كبيرا لكل من يحاولون الركوب عليه لجعل المقاومة الجزائرية تحظى بقدر أكبر من الاهتمام، إذ يُصدمون بحقائق تتعلق بموالاة كل حركات المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي الذي صار رسميا سنة 1830، إلى المغرب. وهؤلاء كانوا يعتبرون المنطقة كلها بلدا واحدا، ولم يكونوا يُخفون ولاءهم للسلطان المغربي.
هنا، نورد ورقة بحثية نادرة جدا، سبق وأن نُشرت في أرشيف منشورات وزارة الأوقاف المغربية، في إطار بحث عن شخصية الأمير عبد القادر، كتبها الأستاذ عبد القادر القادري، الذي اشتهر بمجهود كبير في التأريخ للعلاقات المغربية الجزائرية، خصوصا قبل الاستعمار الفرنسي. جاء في هذه الورقة ما يلي:
«ولما عادت القوات المغربية إلى الجزائر سنة 1844 لتحارب بجانب أهل الجزائر القوات الفرنسية، أرسلت فرنسا ثمان وعشرين قطعة بحرية من أسطولها إلى مياه طنجة والصويرة، وراحت تنذر السلطان المولى عبد الرحمن بوجوب التخلي عن الأمير عبد القادر، وسحب القوات المغربية من الجزائر، فرفض السلطان مولاي عبد الرحمن إنذارها، فصبت حينئذ البوارج الفرنسية حممها على مدينتي طنجة والصويرة، وهجمت الجيوش الفرنسية الجرارة على الجيش المغربي، فذهل هذا الأخير من هول مفاجأة استخدام المدافع بكثرة في الميدان مع أن جله من الفرسان، فاضطر المغرب إلى قبول عقد الصلح بعد هذه المعركة المعروفة «بمعركة إيسلي»، فتفرغت القوات الفرنسية من محاربة المغاربة، وتوجهت بكليتها إلى محاربة قوات الأمير عبد القادر، وبقيت الحرب سجالا بينهما، إلى أن أعلن الأمير عبد القادر استعداده للاستسلام، بسبب فقده كثيرا من رجاله في ميدان الوغى، وبعد أن أمضى في القتال سبع عشرة سنة فسلم نفسه إلى الجنرال «لاموريسبير»، بسيدي إبراهيم، ولكنه اشترط أن يسمح له بالانسحاب مع عائلته إلى عكا أو الإسكندرية، فأبحر إلى فرنسا وأنزل في تولون، ثم قيد إلى سجن في قصر «بو» في أبريل سنة 1848، ثم إلى سجن في قصر «أمبواز» في أكتوبر 1848، وبعد ذلك أطلق سراحه، ونقلته باخرة فرنسية إلى القسطنطينية، حيث احتفل به السلطان عبد المجيد احتفالا عظيما، وفي سنة 1854 انتقل الأمير إلى دمشق وتلقاه أهلها بحفاوة بالغة.
ولما وقعت الاضطرابات بدمشق سنة 1860 وتوجه المتظاهرون إلى الحي المسيحي، قام الأمير عبد القادر منتصبا للدفاع عن المسيحيين، فأنقذ منهم الكثير من الموت المحقق، فالتجأ إلى قصره قنصل فرنسا لانيس، ويقدر عدد المسيحيين الذين نجاهم الأمير عبد القادر من تلك المذبحة باثني عشر ألف مسيحي، ولما عاد الهدوء إلى دمشق، جمع المسيحيين الملتجئين إليه، وألفهم قوافل سارت تحت حراسة الجزائريين المقيمين إذ ذاك بسوريا، إلى أن بلغت لبنان، ومنها أبحرت إلى فرنسا تحت بعثة الجنرال الفرنسي «دوبورد دو تبول» في أواخر غشت سنة 1860. وبقي الأمير عبد القادر مقيما في دمشق، إلى أن وافته منيته في مارس سنة 1883».
عندما حكم المولى عبد الرحمن الجزائر وبايعه والد عبد القادر!
عندما وُلد عبد القادر الجزائري، كان المغرب يعرف تحولات سياسية، رست على وصول ابن المولى عبد الرحمن إلى السلطة. (السلطان المولى عبد الرحمن توفي سنة 1797، بينما عبد القادر الجزائري وُلد سنة 1807).
لكن والد الأمير عبد القادر الجزائري، واسمه الأمير محيي الدين، كان من جملة الجزائريين الذين بايعوا السلطان مولاي عبد الرحمن في خضم جملة من الأحداث الشائكة، المنسية تماما من التاريخ، والتي لا تُريد أطراف كثيرة، خصوصا في الجزائر، لهذه الحقائق أن تظهر، أو تُسجل توثيقا لما عرفته الحدود المغربية الجزائرية من تشويه وتحولات، واختزال لمكانة المغرب وفضل السلاطين المغاربة على الجزائر، سواء عندما كانت تحت حكم العثمانيين الأتراك، أو بعد تحولها تحت الاستعمار الفرنسي.
يواصل الباحث المغربي عبد القادر القادري، تنقيبه في حياة الأمير عبد القادر الجزائري. يقول: «وُلد الأمير عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسيني في شهر ماي سنة 1807 في قرية «القيطنة» التابعة لإيالة وهران، ولما بلغ من العمر 14 سنة سافر إلى وهران، لاستكمال العلوم من فقه وحديث وهيئة وتاريخ وفلسفة. وفي نونبر سنة 1825 صحب والده إلى الحرمين لأداء فريضة الحج، وعرج بعد الحج على دمشق، فأمضى فيها زمنا، وسارا منها إلى بغداد فنالا كل رعاية وإكرام، ثم عادا من هناك إلى الحرمين ثانية ومنها إلى وطنهما، فوصلا في أوائل سنة 1828.
ولما أنزلت فرنسا جيوشها في التراب الجزائري في 6 يونيو سنة 1830، ولم تستطع تركيا التي كانت فقدت أسطولها في معركة «نافارين» أن تحرك ساكنا، وتركت شعب الجزائر يواجه وحده مصيره، وقد تذرعت فرنسا لغزو الجزائر بحجة إهانة قنصلها بمروحة من تلك المراوح التي تحملها الأيدي للتهوية في الطقس الحار، وسادت الفوضى في البلاد، بسبب الغزو الفرنسي الذي أهلك الحرث والنسل، اجتمع المرابطون ورؤساء القبائل، وفي جملتهم الأمير محيي الدين، والد الأمير عبد القادر، وتشاوروا في الأمر، فقر رأيهم على الانضمام إلى سلطان المغرب إذ ذاك المولى عبد الرحمن، ووافقهم على ذلك، فدخلت الجزائر في سلطانه، وخطب الجزائريون له في المنابر وبايعوه، فغضب الفرنسيون لذلك وهددوا المولى عبد الرحمن بالحرب، فانسحب الجيش المغربي من الجزائر.
حينئذ اجتمع كبار أهل الجزائر وبايعوا الأمير عبد القادر، وكان يحارب الفرنسيين في مكان يقال له حصن «فيليب»، ولما قويت شوكة الأمير عبد القادر وخافت فرنسا من التخلي عما استولت عليه، أو عزت هي إلى الجنرال فيشل، أن يعقد مع الأمير عبد القادر معاهدة صلح، فخابره في ذلك، وتمت المعاهدة سنة 1834. فتفرغ الأمير عبد القادر لإصلاح الشؤون الداخلية في بلاده، وإلى الاستعداد للحرب، ثم أنشأ مدينة دعاها «تقدمة» وأنشأ كثيرا من المعاقل، وضرب نقودا فضية ونحاسية نقش على أحد وجهيها «هذه مشيئة الله وعليه توكلت»، وعلى الوجه الآخر «ضرب في مقدمة السلطان عبد القادر»، ولكن فرنسا لم يهدأ لها بال، فأعلنت الحرب من جديد، وحشدت قواتا كبيرة بقيادة الجنرال «تريزل» الذي أسرع في الالتحاق بالقوات الجزائرية.
وظل النصر حليف الأمير عبد القادر الذي هزم هذه القوات هزيمة منكرة، الأمر الذي دعا فرنسا إلى عزل هذا القائد وتعيين المارشال «كوزيل» خلفا له إنقاذا للموقف، ودامت الحرب عدة أشهر بين الفريقين… وكانت سجالا، ولما فدحت خسائر الفرنسيين فيها، اضطر القائد الفرنسي إلى طلب الهدنة من جديد… فعقدت معاهدة «تافتا»، التي خول للأمير عبد القادر بموجبها استيراد الأسلحة من أي مكان».
فگيگ.. المدينة التي تحفظ تاريخا كاملا من دعم المغرب لمقاومة الجزائريين
كلما أثير موضوع تعيين الحدود بين المغرب والجزائر، إلا وأثير اسم فگيگ. لأن هذه المدينة شكلت موضوع إحراج كبير للفرنسيين، على اعتبار أنهم حاولوا سابقا جعل سكانها يتبعون للجزائر وليس للمغرب، لكن الأهالي رفضوا بالمطلق التخلي عن انتمائهم إلى المغرب والتنكر للروابط التاريخية الضاربة في القدم، والتي تجمعهم بسلاطين الدولة العلوية، والدول التي تعاقبت على حكم المغرب، قبل قرون خلت.
يرى الباحث المغربي عبد الرحمن الحرادجي، الأستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة، وهو أحد المتخصصين القلائل في تاريخ منطقة فگيگ وما يتعلق بتاريخها مع الاستعمار الفرنسي وموضوع توطين الحدود في الصحراء الشرقية، أن أطروحة الفرنسي «فوجاس»، تعتبر عملا جامعيا في خدمة الاستعمار الفرنسي المتربص بالتراب المغربي.
بتسليط الضوء على هذا الموضوع، سوف تتضح بالتأكيد أسباب دعم المغاربة للأمير عبد القادر، وحركات المقاومة الجزائرية التي ظهرت بعده أيضا.
يقول الباحث عبد الرحمن الحرادجي، في مقالة له مقتطفة من كلمة ألقاها في ندوة سنة 2003، متحدثا عن موضوع قصف فرنسا لواحة زناگة سنة 1903، وهو القصف الذي يُمكن اعتباره نتيجة لدعم المغرب للقبائل في الجزائر، في حربها ضد فرنسا. يقول: «فهذه الاتفاقيات والمعاهدات المجحفة التي كانت تُملَى على المغرب إثر كل تقدم ميداني عسكري تعتبر «باطلة من الناحية القانونية»، رغم أن سلطات المخزن كانت توقع وتصادق عليها مكرهة بشتى وسائل التحايل والابتزاز، بل وحتى إرشاء المفاوضين وشراء ضمائرهم… فهذه التغليفات القانونية بالتوقيع والمصادقة للأفعال والسلوكات الاستعمارية غير المشروعة، لم تكن سوى لإضفاء «شرعية» مطلوبة أمام منتظم دولي يعج بالقوى الاستعمارية المتنافسة على ما كانت تعتبره مجرد فرائس لا بد من الانقضاض عليها. فموريس فوجاس نفسه يتطلع في نهاية أطروحته إلى يوم تمتد فيه السكة الحديدية من تلمسان إلى فاس، حيث يقول: «في هذا اليوم (…) سيتضح أننا قمنا بالوظيفة التي يمنحها التاريخ والطبيعة لفرنسا، ألا وهي نشر الحضارة (!) في المغرب وإيقاظه من السبات، حيث يُنوِّم الإسلامُ طاقاته وثرواته».
يمكن اعتبار أطروحة فوجاس Maurice FAUJAS عملا جامعيا في خدمة الاستعمار الفرنسي المتربص بالتراب المغربي، أُنجزت في فترة حساسة كانت خلالها فرنسا في أوج استعداداتها وتحركاتها لإحكام السيطرة على شمال غرب إفريقيا للوصل بين ما كانت تحتله آنذاك، الجزائر من جهة، والنيجر والسينغال من جهة أخرى. كان لا بد من التحرك إذن من الجزائر في اتجاه الغرب نحو المغرب، وإن اقتضى الأمر إعادة النظر والصياغة والهيكلة لمعاهدة للا مغنية التي كانت تعترف بمغربية بقاع تشكل حجر عثرة أمام تقدم الغزو الاستعماري، رغم الغموض المقصود الذي كان يلف بعض مضامينها. كان لا بد من تبديد هذا الغموض وتأويله لصالح الخطوات الجديدة، بل وتجاوز ما هو واضح بوضعه في تصورات جديدة. وهكذا أضيفت إلى معاهدة للا مغنية بروتوكولات 1901 و1902، التي تبوأت فيها منطقة فجيج مكانة مرموقة نظرا إلى أهميتها الاستراتيجية.
لقد سبقت مرحلة الغزو الاستعماري مرحلة التعرف والاستكشاف والتجسس، كان للجغرافيين فيها باع طويل، لدرجة أن الكثير من العسكريين أصبحوا جغرافيين بامتياز، كما أن الجغرافيين أضحوا في خدمة الخطط العسكرية والسياسية بلا منازع. وتُمكِّن قراءة أطروحة موريس فوجاس من اقتفاء أثر العوامل الجغرافية وخصوصياتها وتجلياتها في مسير التوسع الاستعماري بالجنوب الشرقي المغربي عامة، وبفجيج خاصة، وإن كانت قد تناولت موضوع الحدود المغربية «الجزائرية» في إطار اقتصادي سياسي».