شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

 المغرب في الكتابات العربية

بدأ الاهتمام المشرقي ببلاد المغرب يزداد أكثر فأكثر خلال العقدين الأخيرين بسبب ما أحدثته وسائل الاتصال الحديثة التي قربت البعيد وسمحت بالتعرّف عن كثب بين البلدان والأقطار. كان هذا الأمر أشبه باكتشاف بالنسبة للمشارقة أكثر من المغاربة. وهكذا توالت الكتابات العربية عن المغرب ووقفت، في كثير من الأحيان، على ذلك التميّز الحضاري واختلاف أساليب العيش والعادات، وسمة التعدد التي ميّزت المغرب في المجال الطبيعي وعلى المستوى الجغرافي واللغوي، والعمراني والإرث التاريخي الذي مازال حيا في كلّ مظاهر الحياة المغربية.

 إعداد وتقديم: سعيد الباز

أتت هذه الكتابات العربية عن المغرب بالصدفة أحيانا، وأحيانا أخرى اقتضتها مناسبات، من قبيل اللقاءات الفكرية أو الأدبية أو الصحفية، وتولّدت عنها حالة الانبهار والشغف بالبلد وبمظاهره الاجتماعية والحضارية وإرثه التاريخي الحيّ.

 

سيف الرحبي.. المغرب صلةٌ وثيقةٌ جماليا ومعرفيا

 

 

 

 

… في عُمان، زمن الطفولة البعيدة، لا نكاد نعرف شيئا عن البلاد المغاربية. كانت ثقافة بلاد المشرق العربي بكافة مناحيها، بجانب الإرث المحلي، تمارس مطلقة الهيمنة على الوعي العام وهو وعي تقليدي… وكان هناك ما يشبه الكلام الغامض عن الثورة الجزائرية و(وادي ميزاب) حيث يقطن الأمازيغ الإباضيون، الذين تربطهم صلة رحم مذهبية بإخوانهم في عُمان. وحين كنّا في القاهرة، استمرّ هذا الغموض حول تلك البلاد الشاسعة والنائية… نفرٌ من الطلبة ذهب إلى المغرب، وجاء بأخبار مثيرة عن طبيعة تلك البلاد التي تفوق بلاد المشرق ولطف تعامل أهلها مع الغرباء…

مطلع الثمانينات زرتُ المغرب قادما إليها من دمشق وعائدا إليها. نزلتُ مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، وهو لا يختلف كثيرا في تواضعه وبساطته عن مطار دمشق الدولي. كنتُ أحمل معي نسخاً من كتاب صدر لي للتوّ (الجبل الأخضر) وحين لاحظ شرطي الجمارك السوري كثرة النسخ في الحقيبة، أخذني إلى غرفة جانبية حيث سألني الضابط عن سبب كثرة النسخ وطبيعة الكتاب. أوضحت أنني كاتبه وأنني مقيم في الشام… حتّى ضجر لعدم أهميّة الموضوع بالنسبة إليه، فأفرج عنّي وعن الكتاب الذي حملته إلى المغرب والأصدقاء…

لحظة وصولي إلى المطار المغربي، وأنا في طريقي إلى منطقة تفتيش الحقائب، اندلقت الحقيبة التي أحملها وهي غير مقفولة كالعادة التي استمرت حتّى هذه اللحظة، تطايرت نسخ الكتاب متبعثرة على أرضية المطار، ممّا جعل شرطي التفتيش يدعوني متجاوزا الذين قبلي في الطابور. سألني بدوره عن الكتاب ولماذا هذا الكم من الكتب المتشابهة؟ أوضحتُ له مثلما أوضحتُ لزميله السابق في دمشق. تركني أمضي في حال سبيلي من غير مشاكل وأسئلة إضافية تحفل بها مثل هذه المناسبات. مضيتُ إلى الردهة الخارجية للمطار حيث كان في انتظاري زاهر الغافري وأصدقاء آخرون مقيمون في المغرب من أجل الدراسة.

منذ تلك الفترة التي بدأت في التعرّف فيها على الوسط الثقافي المغربي، أخذت الصلة في التوثيق والحميمة جماليا ومعرفيا، عبر أطوار الزمن وتقلبات أمكنته… وبدار توبقال… أصدرتُ ديوان (رأس المسافر) الذي استُبل بشكل رائع وفريد. اتّسعت العلاقة وتشعبت حضورا مكثفا… كنتُ أحضرُ في العام أكثر من مرة، من مراكش، فاس، الرباط، الدار البيضاء، وحتّى أصيلة وطنجة خاصة في موسم الصيف والمهرجان… حيث يتجمع الأصدقاء من كلّ الأنحاء المتشظية والبلاد… وجدتُ في المغرب والبلاد المغاربية عامة ما لم أجده في المشرق. ذلك الشغف حدّ الهوس والجنون بالفنون والفلسفة، الطليعي منها واللامألوف الذاهب صوب المغامرة والخطر والمجهول. هوس عبّر عنه أصحابه كتابة وسلوكا، حياة وموتا… هذا الرافد من روافد هذه الثقافة يصبّ في متنها العريض بأسمائه البارزة في ساحة الثقافة والفكر العربيين. فقد أعطت هذه المناطق في الثلاثين سنة الأخيرة وأمدّت ثقافة العرب وفكرهم الذي وصل في بعضه إلى التنميط الإيديولوجي وضجر التكرار العقيم، بكلّ ما هو جديد، مبعث سجال مضيء.

الأسماء في هذا المنحى، من فرط إلحاحها، ليست بحاجة إلى إيراد وتسطير.

(بومة منيرفا/ رحلات ومقالات، سيف الرحبي)

 

علاء خالد.. أكتب إليك من بلد بعيد

 

يقدم الشاعر والكاتب المصري علاء خالد، في كتابه «أكتب إليك من بلد بعيد» الذي ضم رحلات إلى اليونان وفرنسا وأمريكا والمغرب، لوحات جميلة للمغرب تتأمل المكان والمعمار من زاوية جمالية، وتكشف في الوقت نفسه دلالاته الاجتماعية: «البيوت في مراكش وفاس جنّتها هي الداخل. ليس لها نوافذ تفتح على الخارج. جدران مصمتة متعالية تلتقي في هذا السقف المجازي، نقطة الزوال، للدرب الضيق. البيت وحدة مغلقة على الداخل، وربما لهذا السبب يتحقق داخل البيت ما كان المفروض أن يحدث خارجه. يتحوّل إلى وحدة اجتماعية كاملة. الشارع للعبور فقط، بأقل قدر من المساحة والاتساع والصدام، أمّا نسج الجمال والعلاقات على مهل فيحدثان داخل قلب حبّة الرمان.

بعد الدخول مباشرة للرياض هناك مدخل يفضي إلى ممر صغير يفضي لباحته، على اليمين مباشرة هناك سلم يفضي للأدوار العليا ومنها للسطح. يختزن السطح كمية من الضوء تعوض درجات العتمة التي يستقبلك بها البيت. فقط من تلك الفتحة العليا داخل الرياض تدخل الشمس، ثم يُعاد توزيع الضوء بالتساوي، على اليمين غرف الرياض وأدواره الثلاثة، من هذا الصنبور الضوئي الشفاف المليء بذرات الغبار. داخل الرياض الضوء هادئ ومطمئن، وذاتي، مجهول المصدر، كضوء ثمرة الرمان، أو كضوء الأحجار الكريمة، أصيل وليس انعكاسا لضوء آخر، بالرغم من عامود الشمس المصبوب داخل باحة الرياض. هناك شمس حيية تعيش في فاس. تشعر بأن هناك غلافا منصوبا حول المدينة يمنع وصول تلك الدرجة القوية من ضوء الشمس، يمتص جزءا منها، ويمرر ضوءا مكسورا كأنه لون غائم. يحفظ المدينة فيه. كأنّ المدينة تعيش داخل فقاعة من الضوء المكسور. تشعر بأنّ هناك فلترا سماويا ترى الشمس من خلاله، ويمكنك أن تفتح عينيك فيها. لا أعرف هذه الشمس الحيية مرتبطة بهذا الوقت من السنة، أم هي ظاهرة ! وهذه الدرجة من الضوء المكسور هي التي جذبت الرسامين ليرسموا فاس القديمة ويصبح ضوؤها إحدى أيقونات رسوم عصور الاستشراق.

داخل الرياض، الذي أقمنا فيه، كنّا نتحرك كأبطال ألف ليلة وليلة، ولكن بدون وقائعها. زمن الحكاية يتجدد دائما عبر هذا التناسل العمراني للقديم. ليس هذا فقط، أيضا عبر هذا التناسل لسلالات الضوء نفسها التي كانت إحدى البطلات المتواريات للحكاية. هناك درجة من الضوء تفتح باب الحكايات القديمة. هذه الحكاية المعلقة في ثقافتنا قابلة دوما لأن تتناسخ وتُستدعى في أكثر من زمان ومكان ومناخ. كنت متعجبا ومندهشا ونفسي طافحة بالسرور من هذا المكان. الغرفة التي نزلنا فيها كانت في الطابق الأرضي، كانت في الماضي تخصّ عائلة بأكملها. التاريخ والزخارف والنقوش النباتية والحروف العربية تسكن في كلّ شيء، بداية من الباب والشباك والسقف العالي، وذلك المستوى الآخر للغرفة، الذي يتم الصعود إليه بسلم خشبي، والذي ربّما كان مخصصا لنوم الأبناء، أو لساعات القراءة والتأمل لربّ الأسرة في الماضي، وصولا إلى الحمام وبلاطات الموزاييك التي تغطي الجدران والأرضية وحوض الغسيل… كنت أستكثر على نفسي أن أقيم في مكان له هذه الدرجة من الجمال والحساسية، ينعقد لساني من الدهشة. طوال أربعة أيام لم ينفك لساني، ولم ينقطع انبهاري بهذه الأشياء البسيطة كلما دخلت الغرفة، وأعيد التأكيد مرة أخرى، بنفس اندهاش المرة الأولى».

 

رحمن خضير عباس.. حين أضحى المغرب وطنا بديلا

 

 

 

… في أواخر سبعينات القرن الماضي، حللنا في المغرب، وكنّا مجموعة غير متجانسة من العراقيين. الصدفة وحدها التي جمعتنا. فلم نكن قد خططنا لذلك مسبقا، سوى أنّ أكثرنا كان هاربا من قفص حديدي كبير، اسمه الوطن. ولحسن الحظ، كانت المدارس المغربية (آنذاك) بحاجة إلى مدرسين في مختلف التخصصات، لسدّ النقص. لذلك، فقد استوعبت الوزارة المغربية طلباتنا للعمل في التعليم الثانوي. وهكذا، توزّعنا على المدن المغربية المختلفة. والطريف في الأمر: كنّا نجتمع في العطل السنوية، فنستفسر عن بعضنا، ونطلق اسم المدينة ككُنية للشخص المقيم فيها. فنقول مثلا: هادي القصر، نسبة إلى القصر الكبير، وعادل طنجة، وساجد فاس، وكاظم تازة، وجواد آسفي… إلخ من المدن الأخرى. كنّا متوجسين من حقيقة وجودنا في المغرب. تنتابنا مشاعر متضاربة، بأننا نمرّ بمرحلة طارئة، حتّى إنّنا ترددنا في شراء مستلزمات السكن والعيش من أثاث وغيرها، واكتفينا بالضروري فقط. وكأنّنا في حالة من السياحة والسفر، متلهفين لسماع أخبار الوطن، الذي غادرناه، ولكنّه لم يغادرنا. لكنّ الحياة المغربية، ببساطتها وهدوئها، قد سمّرتنا على أبوابها، فاقتنعنا بأنّها ليست مجرّد محطة انتظار، وإنّما هي ملاذ بديل، سرعان ما تحوّل إلى عنصر حياتي، تناسينا به همومنا، وإمكانية العودة إلى الوطن الأوّل. شيئا فشيئا، تناغم أكثرنا مع الواقع المغربي، الذي انتشينا بعطره، وتسللنا إلى عمق الحياة فيه، وتشبعنا بعاداته وتقاليده. كان المغاربة أقرب إلينا من دول تجاورنا، وكأنّها عملية الجذب بين قطبين متباعدين، لأنّ العراق في أقصى الشرق، والمغرب في أقصى الغرب. ومع ذلك، فقد لمسنا أشكالا من التعاطف والاحترام، من قِبل أغلب شرائح المجتمع. حالما يُذكر العراق أمام المغاربة، حتّى تنهمر الذاكرة الجمعية لهم. فيتحدثون عن أصالة العراق، عن شعره وأدبه، وعن عصوره الذهبية. يتحدثون عن التمر والنهر والحضارة وأشياء أخرى تُشبع فينا الأُلفة التي نفتقدها في بلدان أخرى. أحيانا نحاول أن نتحدث لهم عن التراجع الكبير الذي شهده العراق. ولكنّ مخيالهم الجمعي يرفض ذلك، ويبقى متشبثا بالعراق المتألّق الذي سيتجاوز المحنة. إنّه شعور جميل، ألفناهُ وتعوّدنا عليه. المغربي يعرف عن بلدك أكثر منك، يتحدثون لنا عن مرقد الإمام عبد القادر الكيلاني في بغداد، كما يتحدثون عن الجواهري والسيّاب ومظفر النوّاب. يذكرون لنا المجلات الأدبية التي تأتي من العراق، رخيصة في ثمنها وغنية في محتواها، يحفظون أغاني ناظم الغزالي. كان للمغرب الفضل في طمأنة قلقنا، وذلك بإسعافنا بالمحبة والمودة، وجعلنا أكثر قابلية للاستقرار. وهكذا طالت إقامتنا في المغرب، مثقلين بوضع عائلي. فقد تزوج أغلبنا من مواطنات البلد، لكنّ الصدمة التي واجهتنا، هي أنّ أطفالنا لا يكتسبون الجنسية المغربية، حسب القوانين المرعية في الثمانينات من القرن الماضي. لذلك فكّر أكثرنا بالهجرة إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية. ولم يبق في المغرب، إلّا القليل من العراقيين، الذين اندمجوا في المجتمع المغربي اندماجا كاملا.

أمّا نحن الذين هاجرنا إلى الغرب، فقد أضحى المغرب وطنا بديلا، حينما أُوصدت أبواب العراق. لذا كنّا نزوره بين الفينة والأخرى. نتفقد المدن التي هجرناها، والبيوت التي سكنّاها، وكأنّنا نتلمّس أطلال الماضي، مندهشين ومبهورين بهذا البلد، وكأننا نراه للمرة الأولى.

 

 

سميح مسعود… تطوان وحكايا أخرى

 

 

يقول الشاعر والروائي والباحث الاقتصادي الفلسطيني سميح مسعود عن قصة رحلته إلى المغرب «في شتاء هذا العام 2017 منحتُ نفسـي شـيئاً من التغيير بشدّ الرحال إلى المغرب، الذي زُرته عدة مرات في سنوات خلت، أطلْتُ التجوال في أرجائه بأجواء مشحونة بالإثارة، خصبت ذاكرتي بأجمل الذكريات، تجولت على مدى أيام طوال في مُدن كثيرة شكَّلت الطبيعة فيها لوحات تشكيلية جميلة بتكوينات لونية مميزة، تبعث الأمل والإلهام في النفس». في زيارته هذه لمدينة تطوان يقوم الكاتب بسرد حكايات عن المدينة وتاريخها وأعلامها:

«تعددت الأماكن التي زرتها مؤخرا في المغرب، تنقلت بين مدن كثيرة، لملمت منها أجمل الذكريات، منها مدينة تطوان، التي تعتبر أقصى نقطة عربية على بعد أميال قليلة من مضيق جبل طارق، ما أن وصلتها حتى تذكرت الشاعر السوري فخري البارودي الذي ذكر تطوان في قصيدته «بلادُ العرب أوطاني» ومن كلماتها: بلادُ العُرب أوطاني/ منَ الشام لبغدان/ ومن نجدٍ إلى يمنٍ/ إلى مِصرَ فتطوانِ.

شدّتني كلمات هذه القصيدة بإيقاعها الدلالي واللفظي، وقربتني من تطوان بإحساس داخلي عاطفي، شعرت بتآلف معها مع أنني لم أزرها من قبل… سرعان ما بدأت التجول فيها مشياً على الأقدام على مدى ساعات طوال، وجدتها مدينة جميلة تطلُ على البحر الابيض المتوسط … تعبق أحياؤها القديمة بأريج التاريخ بطابع هندسي أندلسي، ويتجلى الزمن الراهن برمزية تمثال ضخم لحمامة بيضاء اللون ينتصب في وسط ساحة المدينة المركزية.

استوقفت شخصاً على مقربة من التمثال، وطرحت عليه عدة تساؤلات عن مدينته للتعرف عليها أكثر فأكثر… أجابني وابتسامة تعلو محياه، بأن التمثال من معالم المدينة الحديثة تمت إقامته في ستينات القرن الماضي بلون مبانيها البيضاء، وبسببه يُطلق علي تطوان لقب الحمامة البيضاء، ومن ثم بيّن لي بأنها كمدينة بدأت بالظهور بعد سقوط غرناطة، واستيطان أعداد كبيرة من الأندلسيين فيها، وما زالت تحتفظ حتى الآن بفنّهم المعماري الأندلسي في منازلها وقصورها ومساجدها وزواياها وفنادقها وجدران قصباتها القديمة.

وتفاجأت مما قاله في حديثه، عن تميز تطوان باعتلاء سدة الحكم فيها امرأة قبل ما يقرب من خمسمائة عام، اسمها «السيدة الحرة» ابنة الأمير علي بن موسى بن راشد… خلط محدثي الأحداث والوجوه من أيام مدينته القديمة خلطاً مزج فيه الخيال والأسطورة، ولطلاوة لسانه أنساني مرور السنين وتغيّر الأحقاب الماضية، وشعرتُ كأن «السيدة الحرة» تعيش بيننا، ولم تغب آثارها في زمن مضى.
واصلت المشي بعد ذلك حتى المساء، وفقدت فجأة حماسي للمشي، فعدت إلى الفندق الذي اخترته في الجزء الجديد من المدينة، جلستُ في مقهى مكشوف يقع في ساحته الأمامية… لم يكن في السماء غيمة واحدة، نظرت حولي بعينٍ مترصّدة، وحملني تلألؤ النجوم بعيداً عن كل شيء، إلى أعماق العصور الماضية، إلى «السيدة الحرة» التي استأثرت بحكم تطوان… وجدتُ قصّتها تعطي الأمل للمرأة العربية لاستلام دفّة الحكم في الزمن المعاصر، الذي ما زالت تتحكم فيه الثقافة الذكورية، بسعيها الدائم إلى الحدّ من سلطة المرأة وتبوئها أعلى المناصب.

نواف القديمي.. جغرافية منزوعة من أعماق التاريخ

 

… بعد خروجي من جامع الكتبية توجهتُ مباشرة إلى ساحة الفناء. حين اقتربتُ من ساحة الفناء، وبدأتُ الولوج إلى محيطها، شعرتُ وكأنني أسير في مشاهد فيلم تاريخي قديم… اكتظاظ أعداد كبيرة من الناس وسط ساحة واسعة وممتدة، تُحيط بها أبنية قديمة من كلّ الجهات، وعلى أطرافها مطاعم ومقاهٍ شعبية، وفي ثناياها عشرات التجمعات والعروض الشعبية، وعربات المأكولات، والبهلوانيون، وبائعو الحيوانات، وعدد كبير من المغاربة والسياح من كلّ دول العالم، ونشاط وتوهج ينضحان من وجوه الجميع.

تجولتُ في كلّ نواحي الساحة، وقفتُ عند بعض العروض البهلوانية، وشربتُ عصيرا محليا غريبا من إحدى العربات، وصوّرتُ الحاوي وهو يعزف للأفاعي من بوقه لتتعالى وتقف مع كلّ مقطوعة جديدة. بعد ساعة من التجوال في ساحة الفناء، توجهت إلى العربات التي تجرّها الأحصنة، واتفقتُ مع أحد السائسين على أن يتجول بي في أرجاء مراكش. اكتشفتُ أنّ لمراكش وجها شديد الحداثة، فنادق فخمة، وأسواق كبيرة، وشوارع واسعة… بعد مرور بعض الوقت من جولتي في مراكش الحديثة قلت للسائس، وكان اسمه كريم: ما لهذا تُشدّ الرحال يا كريم… أعدني إلى أزقة المدينة القديمة…

رأيتُ على أطراف مراكش القديمة سور المدينة الضخم، والمبني من الحجر الأحمر الداكن، وإحدى بوابات مراكش التاريخية… في أرجاء المدينة القديمة أحياء متعددة، لا يزال يسكن بها أكثر من مائة ألف إنسان، وفيها أزقة ضيقة لا يتّسع بعضها لأكثر من عابر واحد، وعلى جانبي طرقاتها مبانٍ قائمة منذ مئات السنين، وأسواق شعبية مكتظة تحوي كلّ التراث المراكشي الأصيل، ومطاعم ومقاهٍ ودكاكين متنوعة.

الظاهرة المُلفتة في مراكش هي كثرة الدراجات النارية… أعدادها الكبيرة المتوقفة على جنبات الشوارع وبقرب الدكاكين… وكثافتها وهي تسير في الطرقات، ومنظر النساء حتّى المحجبات، وهن يقدن دراجاتهن بكلّ أريحية، وهو أمر لا تكاد تراه في المدن المغربية الأخرى… اتجهتُ إلى وسط الساحة مجددا، ودخلتُ إلى مطعم شعبي مكشوف في وسط الساحة بعد أن راق لي شكله كثيرا، وسألتُ النادل إن كانت هناك مأكولات مراكشية خالصة، فوضع لي بعضا منها على إحدى الطاولات الممتدة التي تستخدمها كلّ المطاعم وسط الميدان. بعد فراغي من الأكل، توجهت إلى أطراف الساحة، وألقيتُ بجسدي المُنهك على مقعد خشبي في مقهى مرتفع يطلّ على المشهد الليلي المبهر لساحة الفناء، طلبتُ شايا مغربيا… وأخذتُ أملأ رئتي من الهواء المراكشي البارد، وأتأمل الساحة المشعّة، وأكتبُ:

«كلّ العالم يتكثف في ساحة الفناء، صهيل خيول المرابطين، ووقع جيوش الموحدين، وضوضاء طبول الحرب، ودويّ الحشود، وصخب المنادين، وصليل السيوف، والأسمال العتيقة، والعمائم المتمايلة، والوجوه المتوهجة، وناسخو الرقاع، والأفاعي المسترخية على أكتاف الحواة، وعازفو الأعواد القديمة، والراقصون على هتاف النصر، وبائعو الحيوانات الغريبة. ضجيج العالم القديم، ووهج الأبنية المغبرّة الضاربة في عمق الزمن، كلّ شيء هنا يُشعرك أنّك جزء من مشهد يتكرر بكلّ تفاصيله منذ قرون، وأنّ العولمة عجزت أن تفعل فعلها في هذه الجغرافيا المنزوعة من أعماق التاريخ. مواسم الضجر لا تحلّ في سماء ساحة الفناء، وقوافل المُنهكين والمكدودين لا تعبر مسالكها ولا تطأ ترابها، وأزمنة التداعي والانكسار لا تتسرب إلى دواخل رجالات هذا الميدان المكتظ بالزهو والبهجة.

لا حل لتلك العيون الواجفة المرتعشة، التي ترتكب مزيدا من العثرات، وتلهث وراء الوجع، وتنوء بحمل ذهنها المُتعب، سوى أن تحقن أوردة جسدها المهدور بجرعات من هواء ساحة الفناء، وتسكب على رأسها قطرات من ماء الأمل الذي ينهال على مسارب المدينة وأزقتها القديمة… عليها أن تتوسد حنين مراكش، وتجنح مع خيالها الخصب، وتتوارى خلف روحها الضاجة بالحياة

هنا حلمٌ آثر الهوى أن يُطِيله».

ساحة الفناء، مراكش 26 أبريل 2009

(أوراق مغربية ص50)

 

 

أيمن عبد العزيز.. المغرب في عيون مصرية

وصلنا إلى مكتب الاستعلامات وطلبنا بعض المعلومات عن فنادق ذات أسعار معقولة وقريبة من وسط البلد، وأنسب المواصلات إلى هناك وإلى بعض المدن المغربية الأخرى وكان أنسب الاختيارات بالنسبة لى أنا وصديقى هو القطار، توجهنا لشباك التذاكر وفي ثوان حصلنا عليها وكان لافتا أن الحجز يتم آليا من خلال الكمبيوتر فقط دون الكتابة بأية أقلام كما يحدث عندنا، حيث أن موظفي حجز التذاكر في مصر يقومون بكتابة بعض البيانات على التذاكر المطبوعة آليا وغالبا ما يكون ذلك بخط غير مقروء، وبعد ذلك رحنا نجذب حقائبنا بهدوء بينما ننظر بشغف للمسافرين من حولنا وخاصة النساء بملامحهن وأزيائهن المغربية المميزة خلال جلوسنا فى انتظارنا القطار الذي كان موعد وصوله بعد حوالي نصف ساعة. استغرقنا النظر لما حولنا من مشاهد مختلفة وخاصة النساء، وما كنت قد قرأته سريعا عن اختلاف وتميز المرأة المغربية عن غيرها من النساء العرب، كما رحت أتفحص محطة القطار وأنظر للرصيف ولاحظت أنه منخفض عما اعتدناه في بلدنا، وعرفت من شبكة الكهرباء بأعلى المحطة أنه من النوع الكهربائي ولا يسير بالديزل.

وقطع انهماكنا الصامت فى التفرس في الوجوه والأشياء من حولنا صوت وصول القطار، وبدأ الجميع يتأهب للركوب، وما إن استقر القطار على الرصيف وكنا بقرب مقدمة القطار عندما دخل إلى المحطة، وما إن اقتربنا من كابينة القيادة حتى لمحت بداخلها شعرا أصفر طويلا ومعقودا على شكل ذيل الحصان اعتقدت أنه ربما يكون رجلا قد ترك شعره يسترسل على كتفيه أو ربما سيدة بجوار سائق القطار لأي سبب كان، إلا أن صاحبة الشعر الأصفر الداكن لم تكن إلا قائدة ذلك القطار وهو ما كان مفاجئا تماما بالنسبة لي وتأكدت حينها أن المرأة المغربية لا بد وأن لها فى هذا البلد مكانة مميزة مكنتها من غرفة القيادة بالقطار كأول امرأة عربية فى ذلك المجال منذ عام 1999، تلك المهمة التي تتطلب من الرجال في مصر أعواما طويلة من الخبرة والتدريب في العمل كمساعد لقائد القطار…
ركبنا القطار وتحرك بنا إلى محطة الدار البيضاء ووصلها بعد حوالي 40 دقيقة مر خلالها على العديد من المناطق السكنية التي تشبه مناطق في بلدنا، ومر كذلك على مناطق عشوائية قرأت عنها من قبل تسمى في المغرب مناطق الصفيح وهي مناطق يسكنها بعض الفقراء والمهمشين، وكان ملحوظا جدا اتساع الأماكن وعدم اكتظاظها بالناس كما عندنا، وكذلك كان ملحوظا انتشار الأعلام فوق العديد من الأبنية وهو مشهد كان جديرا بالملاحظة نظرا لعدم انتشار الأعلام فوق المباني عندنا بنفس الكثافة. وفى تلك الأثناء مرّ موظف التذاكر وطلب التذاكر وأعطيناها له وكانت في يده آلة صغيرة أحدث بها ثقبا في التذاكر كدليل على فحصها، وكان ذلك أيضا يحدث عندنا فى مصر في قديم الزمان قبل أن يتغير ذلك إلى أن يقوم الكمساري برسم «شخابيط» أو خطوط غير مفهومة على التذاكر للغرض نفسه.

وصل بنا القطار لمحطة الدار البيضاء المسافرين، وعلمنا باقترابنا من الوصول إليها من خلال الإذاعة الداخلية بالقطار حيث يتم التنبيه على الركاب قبيل دقائق من وصول القطار إلى المحطة التالية بصوت نسائي قوي وواضح ونقي باللغة العربية أولا ثم بالفرنسية وتذكرت خفوت وعدم وضوح صوت الإذاعة الداخلية عندنا ليس فى محطة القطارات المركزية في ميدان رمسيس بالقاهرة وإنما حتى بمطار القاهرة نفسه أحيانا.

 رفّ الكتب

 محمد آيت حنا.. مكتباتُهم

 

يقدّم الكاتب والمترجم المغربي، محمد آيت حنا، كتابه المتفرد بفكرته «مكتباتُهم» على هذا النحو: «هذا الكتاب مكتبة مفهرسة، دون أي نظام منطقي، لعديد المكتبات التي تواطأتُ مع أصحابها على بنائها أو إبرازها أو حتى نقضها وهدمها… لن أتحدث عن التشابهات التي قد يلفيها القارئ بين ماهو مكتوب هنا وما قد يجده في كتب أخرى، ولا عن التناقضات التي تنطوي عليها هذه المكتبة، فتلك أمور قلما يحفل بها قيم مكتبة».

في هذا الكتاب يستعرض آيت حنا رؤاه وأفكاره عن الكتب من خلال مكتبات كتاب مفكرين عرب ومغاربة وعالميين محدثين وقدامى. فعن مكتبة الروائي المغربي محمد زفزاف يقول: «كان الرجل يستقبل كلّ ما يُهدى إليه من كتب مبتسما، مثلما يليق بإله طيّب يستقبل رعاياه يوم عرضهم بين يديه، ثمّ يخضعهم إلى حساب سريع يصنّفهم به، بين ما يمكن أن يدخل الجنّة وما يلقى به فورا إلى الجحيم وما يظلّ بين المقامين إلى حين. لا يتعلّق الأمر هنا بمجاز محض، لقد بنى الرجل بالفعل نظاما متكاملا لمكتبة تقوم على تصنيف الكتب، نظاما قوامه رفوف معلّقة وسرير تحته صناديق خزن: الرّفوف المعلّقة هي الجنّة التي لا تصعد إليها إلاّ كتب الصّفوة، أمّا الصناديق تحت السّرير فالجحيم الذي يلقى فيه بما لا تمكن قراءته ولا تحمّله من كتب؛ بينما يظلّ ما تبقّى من مساحة البيت مكانا صالحا لكلّ الكتب التي لم يحسم في أمرها بعد، تلك التي ستخضع لعمليات انتخاب معقّدة، فإمّا أن تصعد إلى قسم الصّفوة، حيث النّور والمقاعد المحدودة، أو تنحدر إلى غيابة الجحيم حيث المساحة لا حدّ لها، لا نهائية بقدر لانهائية الكتب الرّديئة التي يصرّ أصحابها على إهدائنا إيّاها!».

أمّا عن مكتبة الروائي الفرنسي ستاندال، فنورد هذا المقطع المقتبس من الكتاب: «الأعمال العظيمة لا خوف عليها، تعبر من زمن إلى آخر دون حاجة إلى مكتبة تحفظها، حتى لو انعدمت المكتبات، حتى لو لم يكن ثمة من وسيلة للطبع والنسخ، حتى لو اختفى نظامُ الكتابة نفسه، ستظل الأعمال العظيمة تنتقل في الكلمات الشفاهية والأحلام والمصافحات العابرة … فالمكتبات كما قال ستاندال: «لا تصلح إلا ملاذا للكتب الرديئة، تلك الكتب التي لولا المكتبة لاختفت إلى الأبد !». أمّا عن المكتبة نفسها بين الفراغ والامتلاء فيقول الكتاب: «فراغ المكتبة هو حنينها الأول للصمت، وفيه فقط نتعرف معنى القراءة كفسحات صمت. الفراغ الموجود ما بين كتابين هو الكتابة الأكثر امتلاء في الوجود، هو القابلية لأن نكتب أي شيء…لا شيء أكثر إثارة للفزع من منظر مكتبة مزدحمة تماما، مكتبة انتهت، وما عاد بالإمكان التفكير فيها: الكتب تخنق المكتبة على مهل…تموت المكتبة لحظة لا يبقى فيها فراغ لا يحتمل حمل العلامات وبعض المكتبات تحمل موتها في فراغها إذا ما أسس هذا الفراغ استنادا إلى امتلاء مفترض…يمكن أن نشبه الفراغات في المكتبة بالمسام الضرورية للتنفس، تلك المسام التي تأخذ بالضيق شيئا فشيئا إلى أن تموت المكتبة تماما تحت ثقل الكتب».

 

 متوّجون

 عبد الفتاح كيليطو يفوز بالجائزة الكبرى للفرانكوفونية

أعلنت الأكاديمية الفرنسية عن جوائزها لسنة 2024، ومن أهمّها الجائزة الكبرى للفرانكوفونية التي ظفر بها الكاتب والأكاديمي المغربي عبد الفتاح كيليطو. هذه الجائزة، التي تمّ تأسيسها سنة 1986، وتستهدف بالدرجة الأولى تتويج شخصيات في عالم الأدب والفكر الإنساني والإبداع الفني، كان لها إسهام بارز على مستوى بلادها أو عالميا في تعزيز إشعاع اللغة الفرنسية والحفاظ عليها. إضافة إلى ذلك شملت لائحة فائزين بـ67 جائزة ضمّت مجالات الأدب والشعر والنقد والفلسفة والتاريخ والسينما والمسرح والموسيقى الفرنسية. ومن المعلوم أنّ سنة 2023 كانت شهدت، أيضا، حدثا مغربيا موازيا ومهما أظهر مدى الإشعاع الفكري والإبداعي للأدب والثقافة المغربيين على المستوى العربي، يتمثل في فوز الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو بجائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب، وذلك، كما ذكرت لجنة الجائزة، «لبراعته في تأويل الأعمال السردية العربية القديمة بدراسات مكثفة، أحاطت بها في شتى أنواعها».

وليس غريبا عن عبد الفتاح كيليطو أن يطل من نافذة العربية مترجما ونافذة الفرانكوفونية كتابة، فهو كاتب من طينة أخرى تكاد تستحيل مقاربته إلا من زاوية القراءة والتتبع عبر مساراته التأويلية التي تقتضي الكثير من النباهة والانخراط الكلّي في مغامراته المتشعبة في أصولها ومرجعياتها، خاصة في ما يتعلّق بالنصوص الكلاسيكية العربية التي تحظى لديه بالكثير من العناية، منذ نقطة الانطلاق من المقامات وبنياتها السردية وحمولتها اللغوية فائقة التعقيد. قد تبدو كتابة كيليطو كتابة تتّخذ منحى الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس حيث الكتابة نفسها تخضع لتأويل الكتابة في حدّ ذاتها، وبذلك تفتح أمام الدراسات الأدبية في كلّ مستوياتها النقدية والتأويلية أفقا مغايرا وتجديديا، أداتها المعرفة التراثية من جهة وأهم المدارس النقدية الحديثة والاطلاع الواسع على الآداب العالمية بتياراتها وخصائصها المميزة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى