إنّ العلاقة بين المغرب والمشرق العربي ظلت تشهد حالة من سوء الفهم أحيانا أو التأويل غير المستند إلى الواقع أحيانا أخرى. لذلك شاعت الصور النمطية في الكتابة المشرقية عن المغرب، نظرا لبعده الجغرافي من جهة ولوقوع المشرق العربي والأقطار التي تليه في شمال إفريقيا تحت الاحتلال العثماني من جهة أخرى، فانقطعت الصلات الثقافية والتواصل المعرفي والإنساني.
لكنّ ظروفا أخرى نشأت لعدة عوامل ومتغيرات وسمحت بظهور كتابات مشرقية مختلفة عن المغرب، من أهمّها وأسبقها كتاب الرحالة والشاعر اللبناني المهجري أمين الريحاني (1876-1940) «المغرب الأقصي» حول رحلته إلى شمال المغرب أيام الحماية الإسبانية على هذه المنطقة. هذه الرحلة تضمنت الكثير من التفاصيل عن منطقة الشمال المغربي في عدة وجوه سياسية وثقافية ودينية. في المراحل التالية المتأخرة تكاثفت الزيارات المشرقية للمغرب واللقاءات الثقافية والإنسانية التي أسفرت عن الكثير من الكتابات المشرقية عن المغرب، قد نختار منها على سبيل المثال كتاب «تحت أكثر من سماء» للشاعر الأردني أمجد ناصر، حيث أفرد فيه فصلا مطولا عن المغرب تناول فيه العديد من المظاهر الحضارية المميزة للمغرب من خلال أساليب العيش ونمط الحياة إضافة إلى تطرقه المستفيض للإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وخصوصا علاقته الثقافية بالمشرق الموسومة في الكثير من الأحيان بالتناقض وسوء الفهم. كانت زيارة الشاعر اللبناني شوقي بزيع لمدينة بني ملال سببا في كتابته لأطوار رحلته والحديث عن المكان وتاريخه وانطباعاته المؤثرة عنه. في الأخير يمثل الكاتب العراقي رحمن خضير عباس صاحب المجموعة القصصية «أوراق من يوميات حوذي» و«هواجس المأوى»، حالة مختلفة فهو أقام في المغرب ردحا من الزمن وبالتحديد بمدينة تارودانت، قبل أن يهاجر إلى كندا. في كتابه «المغرب بعيون عراقية» يدوّن أدق التفاصيل عن جولاته في المغرب شرقا وجنوبا، ومكنته إقامته وتردده بشكل سنوي على المغرب من أن يتتبع جملة من المتغيرات الاجتماعية إضافة إلى الوقوف على العادات والتقاليد، الطبيعة والإنسان، التاريخ وعلاقة المغرب والمشرق.
وعموما، سيظل المكان بأبعاده المختلفة جغرافيا وتاريخيا وأنثربولوجيا محطّ اهتمام جلّ الكتابات الإبداعية من رحلة أو سيرة ذاتية… التي تحاول أن تستنطقه وتفهم مدى تأثيره على الهوية الثقافية والحضارية للإنسان.
أمين الريحاني: شفشاون مجموعة ظلال على الأفق المشرق
… وهاك شفشاون مجموعة ظلال على الأفق المشرق… دنونا من البساتين، وقد نوّرت أشجارها، وفاح طيبها، وعدنا إلى الصروح، الصروح البيضاء المتوّجة بتيجان الحصون، الحاملة خارجا وداخلا رسالة الحمراء في الهندسة الغرناطية شكلا ومعنى –جمعا وتفصيلا- في النقش والتلوين، وقلِ التلحين، وقلِ الغناء، وإنّ أجمل الألحان لفي هذا الزخرف وهذه الألوان.
خرجنا من النزل نمشي إلى الساحة الكبرى، فإذا هي تغصّ بالناس من المدينة والمداشر المجاورة إليها. هو يوم السوق التي تقام فيها كلّ أسبوع فتحتلها النساء والرجال للمتاجرة، فتتربع المرأة على الأرض، ويجلس الرجل القرفصاء إلى جانب ما هو معروض للبيع من البقول والثمار والحبوب… سوق عامرة من بدو وحضر، وبما تناثر فيها على الأرض للبيع والشراء، فتتم الصفقات، وهذا ما أدهشني باليسير من الكلام بالصوت الخافت. لا صياح، ولا ضوضاء، ولا ازدحام. قوم متمدنون، يجلسون على الأرض ويتاجرون، فمن هم يا ترى؟ هل هم العرب؟ هل هم البربر؟ هل هم الجنسان وقد تخالطا وتشابها… إنهم لبيض الوجوه، يغلب على النساء الحسن، وفي الرجال الهيبة وشدة البأس.
وهذه اللهجة العربية لهجتهم قد أدهشتني، فأثارت بي كوامن الذكرى، لأنّها أليفة الأذن بسرعتها ووقفاتها، وبما فيها من نحت وإدماج وتسكين لا يجيزه أحد من اللغويين: (حياكلّه) حيّاك الله، (لباسْعْليك) لا بأس عليك!
أمجد ناصر: الدار البيضاء… دهشة الشاي والطبخ المغربيين
… وإلى بائعي الحلزون هناك بائعو الشاي الذين يشبهون نظراءهم المصريين الذين تجدهم قرب المرافق العامة والمناطق السياحية أو على ضفة النيل. سوى أنّ المغاربة يشربون، عموما، الشاي الصيني الأخضر مع النعناع ويسمّونه «أتاي»، أما الشاي الأحمر أو الأسود الذي يشربه المصريون وسائر المشارقة فليس شائعا. الشاي المغربي أصفر اللون، حلو المذاق، عابق برائحة النعناع الفاتنة، يشرب في كؤوس صغيرة، ملونة، غالبا، وله عادات وطقوس في السكب والشرب ليس السوق مجالها… كانت رائحة النعناع تنعش هواء «السويقة» وتستخفّه وليس ذلك بسبب أباريق الشاي الصفراء التي تغلي على المواقد… ولكن بسبب حزم النعناع، بل أكوامه، التي تبيعها نسوة في ركن من السوق. فلم أر كمية من النعناع مشابهة لهذه في أيّ سوق خضر عربية أخرى.
… الشارع الذي يقع فيه المطعم يتفرّع من شارع «أنفا»… لكن ما أن دلفنا قوسه الخارجي حتى انتقلنا من «حداثة المدينة» إلى عراقة المدن المغربية: فاس، مراكش… يبدو أن استخدام الفواكه واللوز مع «طواجين» اللحم والدجاج مشترك بين المطبخ الفاسي والمطبخ الأندلسي… فاستخدام البرقوق والسفرجل والإجاص والتمر والتفاح إضافة إلى العسل مع أكلات يدخل فيها لحم الضأن أو البقر أو الدواجن غير شائع في المشرق العربي… فإن فكرة دخول الفاكهة على الطبخ المشرقي مستهجنة تماما. إذ كيف تستقيم حلاوة الفاكهة و«العسل!» مع اللحوم المطهوة بالبصل والثوم والمطيبة بالتوابل؟ وكيف يكون الطعم، ناهيك عن النكهة، الذي ينتجه اختلاط هذه العناصر المتنازعة في مادتها ومذاقها؟
الجواب، من خلال التجربة: طعم ونكهة مدهشان.
شوقي بزيع: بني ملال.. الجناس اللغوي الغني بالمفارقات
حين تلقيت دعوة بيت الشعر المغربي للمشاركة في اليوم العالمي للشعر هذا العام في مدينة بني ملال المغربية، لم أكن لأيام خلت قد سمعت شيئاً يذكر عن هذه المدينة المجهولة التي قفزت فجأة إلى واجهة الذاكرة.
وعلى رغم أن الرحلات الجوية بين بيروت والدار البيضاء قد أصبحت تتم في شكل مباشر منذ شهور عدة وليس عبر محطات أخرى وسيطة، فإن الرحلة الى الدار البيضاء كانت شاقة وطويلة الى حد التعب والضجر والإنهاك. فالطائرة التي أقلتنا الى الهدف كانت ضيقة ومكتظة وغير مريحة بحيث لا يستطيع المسافر أن يحرك أياً من أطرافه المصابة بالخدر ولا يجد ما يفعله سوى تتبع مسار الرحلة على شاشة الكومبيوتر المعلق فوق رأسه على امتداد الساعات الست التي استغرقتها الرحلة، خلافاً للرحلات المماثلة في الطائرات الأكثر سرعة وحداثة. وحين بدأت الطائرة تقترب من المغرب ظهر اسم بني ملال على الشاشة الإلكترونية متوسطاً خريطة المغرب الشاسعة ودافعاً إياي الى الاعتقاد بأن الإشارة الى هذه المدينة التي لم أكن قد سمعت بها من قبل قد تكون وردت من باب الاحتفاء بدورها الجديد في احتضان الشعراء الوافدين إليها من داخل المغرب وخارجه.
استغرقت الرحلة من بيروت الى بني ملال أكثر من أربع عشرة ساعة من السفر لم يفصل بينها سوى مبيت ساعات قليلة في فندق باليما الواقع في وسط الرباط والمواجه للبرلمان المغربي والذي يبدو شبيهاً بامرأة مسنة لا تزال تذكِّر مرآتها القاسية بسني جمالها القديم، خصوصاً أن القيمين على الفندق المذكور لا يبخلون على ضيوفهم المتوجسين بالإشارة الى أن المناضل العالمي الشهير تشي غيفارا قد حل ضيفاً على فندقهم قبل أكثر من نصف قرن. كان على الحافلة التي حملت الشعراء المشاركين إلى بني ملال أن تسير لست ساعات متواصلة باتجاه الجنوب الشرقي من الرباط حيث تسلم السهول الخضراء قيادها لسهول أخرى ذات خضرة مختلفة وتدرجات لونية مغايرة. وكان المطر يسقط خفيفاً من الأعلى بعد احتباس حراري طويل مما دفع المنظمين إلى اعتبار الحدث نوعاً من الفأل السعيد المتصل بقدوم الشعراء إلى تلك النواحي. وبعد استراحة قصيرة على الطريق الطويل بدأت تظهر أمام أعيننا القمم البعيدة المكسوة بالثلوج لجبال أطلس. أما على جانبي الطريق فقد ترامت في شكل شاسع سهول البرتقال والرمان والزيتون قبل أن تظهر في شكل مفاجئ بيوت بني ملال وأحياؤها المتناثرة عند أقدام الجبال الشاهقة.
لم يكن فندق «بني واي ان» الذي نزلنا فيه مجرد تحريف استغلالي لاسم شركة الفنادق العالمية «هوليداي إن» بل كان، إضافة إلى ذلك، تيمناً باسم مدينة داي القديمة الذي تم استبداله في ما بعد باسم بني ملال الذي لم يظهر سوى في القرن الثامن عشر. أما المدينة القديمة فقد عرف تاريخها الحافل الكثير من الحروب والمواجهات نتيجة لموقعها الجغرافي الفريد بين الجبال الشديدة الوعورة والسهول المنبسطة حتى المحيط، متناغمة إلى أبعد الحدود بين ذلك الجناس اللغوي الغني بالمفارقات بين الأطلسي والأطلس. وهي منذ زمن طويل نقطة التقاء القبائل البربرية أو الأمازيغية المتحصنة بالقمم والقبائل العربية المنتشرة في السهول. وفي تلك المدينة وحولها انتهت تغريبة بني هلال الذين استقدمهم السلطان يعقوب المنصور لمواجهة قبائل الأمازيغ المتمردة عليه أثناء انشغاله بحروب الأندلس. كما أن القائد المرابطي الشهير يوسف بن تاشفين لم يرحم بدوره المدينة المضطربة والعصية على الإذعان فخربها ودمرها وشرد أهلها في الآفاق قبل أن تنهض من جديد. أما جغرافية المدينة فلم تكن أقل غنى من التاريخ والتي تبدو ترجيعاتها البعيدة متصلة بجمال الأندلس وعالمها الفردوسي.
… في طريق العودة إلى الرباط كان مطر فيروزي أقرب إلى الرذاذ يهطل فوق سهول المغرب الأوسط، في حين كانت الأصداء القريبة لقراءات الشعراء وجلساتهم الأليفة تتجمع في مكان ما من الماضي لتنضم بدورها إلى الغابة العظمى لأصداء الذين كتبوا على امتداد القرون قصيــدة المغرب الأم وأغنيته المثخنة بالترجيعات.
رحمن خضير عباس: أكادير وسيرة مقاهي أكادير
حيثما تولّي وجهك فثمة مقهى. المقاهي في أكادير، كغيرها من المدن المغربية، تشكّل زاوية ثرية من زوايا الحياة. لكنّ المقهى تنتصب، وكأنّها الفضاء البديل لكل هموم العمل والحاجة، واللهاث اليومي وراء كسرة الخبز. المقهى المغربية أنيقة، زاخرة، عميقة، رائقة. روادها من كل أطياف المجتمع، طلاب الجامعات الذين ينكبون على أدواتهم، والعشاق الذين يتهامسون. يحجّ إلى المقهى متذوقو البن والشاي، ومتصفحو الجرائد اليومية. كما يتردد عليها عشاق الكرة، والعاطلون عن العمل والسماسرة والمتقاعدون والمسافرون… المقهى بيت من لا بيت له. توفّر له الراحة النفسية، واللقاء مع الأصدقاء والأصحاب. المقهى المغربية تنتشر في كلّ زوايا المدن والقصبات والمناطق النائية. ولا أبالغ إذا قلت: إنّ مجموع المقاهي الموجودة في مدينة أكادير وحدها، يعادل ما هو موجود في عواصم شرقنا الأوسط مجتمعة… يتندر المغاربة بقولهم «بين مقهى ومقهى، توجد مقهى» وفي الحقيقة فإنّ المقهى المغربية تتميز بالأناقة والجمال والراحة وتوفّر الخدمة، ولا أعتقد بأنّ ثمة مقاهي في المشرق تضاهيها. وبفعل تطور الحياة في مجالات تكنولوجيا الاتصالات، فقد أضحت أغلب المقاهي في المغرب مكتبات للمراجعة، وذلك من خلال وجود الطلبة من الجنسين في تلك المقاهي من أجل البحث والدراسة. لذا فقد أضاف الإنترنت أهمية إضافية إلى المقهى، وجعلها من أهمّ مفردات الحياة اليومية.