يُعتبر مارك جيكان أحد أهم المترجمين والمستشرقين الغربيين الذين تسبقهم رغبتهم العاشقة في فهم الثقافة العربية. تخرج من قسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة وارسو ببولندا. يرأس حاليا قسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة ووج.
حاوره: حسن الوزاني
ترجم عددا من النصوص العربية إلى البولندية. من بينها أعمال لأدونيس وهاتف الجنابي وخلود شرف، بالإضافة إلى الجزء الأخير من كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» للمؤرخ المغربي الناصري. من كتبه العلمية الصادرة باللغة البولندية «تاريخ الثقافة العربية»، و«عواصم العرب الذهبية»، و«البولنديون والعالم العربي»، و«قاموس الكتّاب المسلمين منذ القرن السابع حتى القرن العشرين»، و«السحر عند العرب»، و«قس بن ساعدة الإيادي»، و«الرموز العربية الإسلامية»، و«تاريخ العراق»، و«العراق، الدين والسياسة» و«الحضارة الإسلامية في آسيا وإفريقيا».
- يعود اهتمامك بالثقافة العربية إلى لحظة قراءتك لترجمة «المعلقات السبع» مترجمةً إلى اللغة البولندية من طرف يانوش دانتسكي، عام 1981، كنتَ حينها في السادسة عشرة من عمرك. ما الذي أغراك في هذا الشعر؟
- الحقيقة أن المعلقات تُصور، بشكل وفي، الجو الثقافي للجزيرة العربية وروح العرب. وإذا كان المترجم يانوش دانتسكي كتب، في مقدمة ترجمته للمعلقات، عن جمال لغة الشعر العربي، فقد ظلت خصوصيات اللفظ ونبرة اللغة مجهولة بالنسبة لي. ولذلك كنت حريصا على التعرف بشكل مباشر على هذا الجمال، كما كنت أرغب في تبين الفرق بين اللغة البولندية وبعض اللغات الغربية التي كنت أتقنها آنذاك وبين اللغة العربية. لهذا السبب اخترت الدراسات العربية في جامعة وارسو تحت إشراف الأستاذ يانوش دانتسكي المذكور أعلاه.
- ما الذي غيره اختيارك للعربية، لغة للترجمة والبحث، على مستوى حياتك الإنسانية والعلمية؟
- فتحتْ لي اللغة العربية عالما جديدا لم أتوقع وجوده كشاب ينحدر من قرية صغيرة في جنوب بولندا. وقد دفعني التعمقُ في الثقافة العربية الإسلامية إلى إعادة النظر في ما تعودتُ عليه في حياتي الماضية. تعرفت على طرق التفكير الأخرى، ووعيتُ بكون الحقيقة ليس لها وجه واحد. لم يحدث ذلك على الفورطبعا، فتغيير الآراء والقناعات التي تربينا عليها يحتاج وقتا طويلا. وفي نهاية المطاف أجد أن الثقافة العربية منحتني فرصة الانفتاح على آفاق جديدة وعلى ثقافات العالم المختلفة، سواء الشرقية منها أو الغربية.
- أقمتَ ببغداد والجزائر، ما الذي منحته لك المدينتان على المستوى الثقافي؟
- دائما أقول إنني بدأتُ فهمَ الثقافة العربية خلال زيارتي الأولى إلى بغداد في عام 1986، وكان مدرسي للغة العربية الأول سوريا. ربما لهذا السبب ركزتُ، خلال العقود الأولى الثلاثة من حياتي العلمية، على دراسة المشرق العربي. الأمر تغير بعد زيارتي إلى الجزائر عام 2 فقد غيرت تجربتي الجزائرية نظرتي إلى المغرب العربي تماما، إذ فهمت أن الباحثين في الغرب يركزون على المغرب العربي الفرنكفوني ويُهملون دَورَ اللغة العربية في تطور الثقافة في هذا الجزء من العالم العربي. لهذا السبب بدأتُ دراسة الأدب الجزائري في العهد العثماني، من خلال أعمال الشاعر أبي عثمان سعيد المنداسي التلمساني. وقادتني هذه البحوث إلى المغرب الأقصى في القرن التاسع عشر، من خلال اهتمامي بأعمال أحمد بن خالدالناصري، صاحب كتاب «الاستقصا»، واكنسوس المعروف بكتابه «الجيش العَرَمْرَم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي»، وأحمد بن محمد الكردودي صاحب رحلة «التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإصبنيولية». كما قادني فضولي العلمي نحو تونس، من خلال اهتمامي بِعَلي الورداني التونسي صاحب «الرحلة الأندلسية» التي أدرسها حاليا. وكل هذه الأسماء غير معروفة تقريبا في البحوث الغربية، بما فيها البولندية، ولا نجد عن هؤلاء، وهم من نوابغ الفكر والأدب العربي، إلا معلومات نادرة. ففي الجزائر، إذن، وُلدت من جديد كباحث في مجال الدراسات المغاربية. لا أنسى المشرق طبعا، ولكن منذ رحلتي الجزائرية صار المغرب العربي في مركز اهتماماتي العلمية.
- تهتم كثيرا بتاريخ الإسلام، وتاريخ الثقافة العربية والأدب العربي، والعادات والتقاليد العربية، ما الذي يقود اختيارك على مستوى البحث؟
- قصدي الأول، على مستوى دراساتي العلمية، يكمن في تعريف العالم الغربي، والمجتمع البولندي بشكل خاص، على الثقافة العربية الإسلامية؛ وإذا كان عدد من الناس يحاولون فهم العالم على أساس المعايير التي تستند إلى تجارب حياتهم الشخصية، فأنا أسعى إلى أن أبين للقراء أن معاييرنا ليست «كونية» بل هي غربية فقط، وأن طرق حياتنا ليست الأفضل لكل الناس في العالم. هذا هو سبب اختياري للموضوعات والمسائل المعقدة التي أعالجها في بحوثي. كما أود أن أبين أن هناك كثيرا من الأفكار والمفاهيم والتصرفات التي لها معان متباينة في الثقافات واللغات المختلفة، حتى ولو بدت متشابهة للوهلة الأولى. لذلك أنا لا أركز على ما هو متشابه، بل على ما هو مختلف، إذ إن فهم الآخر يمر عبر معرفة الاختلافات بشكل أساس.
- ترجمتَ عددا من الأعمال العربية إلى البولندية. من بينها أعمال لأدونيس، وهاتف الجنابي وخلود شرف، بالإضافة إلى الجزء الأخير من كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» للمؤرخ المغربي الناصري، ما الذي قد يحمله ذلك إلى القارئ الناطق بالبولندية؟
- الحقيقة أنني أعتبر ترجمة النصوص الأدبية جزءا من البحث العلمي، لذلك لا أختار النصوص الأدبية السهلة من حيث اللغة والمعنى. وبذلك يقترب القارئ البولندي، من خلال النصوص الأدبية العربية، والشعرية منها بشكل خاص، من الصور والمعاني والإيقاعات الأخرى. ومن خلال النصوص التاريخية، كما هو الحال بالنسبة إلى كتاب «الاستقصا» للناصري، يتعرف القارئ على تصور آخر للعالَم في عصر معين من العصور. وبالتالي، فإن محاولة شرح تصرفات وطرق التفكير لممثلي الثقافة الأخرى هي القصد الأهم في ترجمة النصوص التي أقدمها إلى القارئ البولندي.
- ما الذي يقودُ اختياراتك لما تترجمه؟
- لا شك أنني أختار النصوص المهمة وذات القيمة الأدبية في عيون النقاد، وطبعا التي تروقني. أنا لا أترجم النصوص التي لست مقتنعًا بها. ورغم ذلك هناك بعض الكتب التي ترجمتُها بطلب من دور النشر، بدون التنازل عن معيار قيمتها الفكرية والأدبية.
- هل تقربنا أكثر من مطبخك الداخلي على مستوى ترجمة النصوص العربية؟
- يتعلق كل شيء بطبيعة النص المترجَم، إذ تختلف الطقوس بين قصيدة أدونيس وتاريخ الناصري ورسالة الغفران التي أترجمها حاليا. فكل كاتب وكل نص له طبيعته الخاصة وهو يحتاج ليس فقط إلى معرفة اللغة، بل إلى معرفة سياقها التاريخي والثقافي، وأحيانا إلى معرفة السيرة الذاتية للمؤلف. لهذا السبب لا يكفي إتقان اللغة لترجمة النص المعين، فدائما أحاول أن أتعمق في جو النص لأفهم قصد المؤلف.
- ما هي، في نظرك، الوصفة الأفضل لترجمة النصوص العربية؟
- أظن أن الترجمة الجيدة تحتاج أولا إلى الدراسة والخبرة، وتقتضي ثانيا من المترجم أن يتخلص من قيود اللغة الأصلية. إذ إننا لا نترجم الكلمات، بل المعاني. كما تفرض ثالثا فهمَ النص الأصلي من خلال معرفة سياقه. وسبق لي، بالمناسبة، أن قرأت عددا من الترجمات من اللغات المختلفة وفوجئت بكون المترجمين يعرفون اللغة ولكنهم لا يفهمون الجو الثقافي أو التاريخي، ويحدث هذا غالبا عند المترجمين الشبان، ومن الجدير بالذكر أن هناك كلمات ومعاني غير قابلة للترجمة؛ وبذلك لا توجد ترجمة دقيقة ومثالية، حيث إن كل نص يفقد، في عملية الترجمة، جوانب من قوته، وإن كان يربح، في الوقت نفسه، معاني جديدة. ويبدو أنه لا مفر من هذه الظاهرة، مع الأسف.
- يعود تاريخ الاستشراق البولندي إلى القرن التاسع عشر، كيف تجد خصوصيات وتحولات المدرسة الاستشراقية البولندية؟
- صحيح أن جذور الاستشراق البولندي عميقة نسبيا، وقد بدأ التطور السريع في مجال الدراسات العربية والإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الباحثون البولنديون حينها يَدْرسون مختلف جوانب الحضارة العربية والإسلامية. وخلال النصف الأول من القرن الماضي، صار الباحثون يركزون على الثقافة العربية القديمة، بينما عرف النصف الثاني من القرن العشرين اهتماما أكبر بالمظاهر المعاصرة في الأدب والفكر العربيين. ومن الجدير بالذكر أنه لا توجد في الحقيقة «مدرسة بولندية استشراقية»، إذ إن الباحثين مستقلون تماما في اختياراتهم العلمية؛ ففي أكبر مركز علمي في مجال الدراسات العربية في بولندا، وهو جامعة وارسو، تتطور البحوث في مجال الأدب والتاريخ والإسلام والفن الإسلامي؛ وفي جامعة كراكوف، التي يعود تأسيسها إلى القرن الرابع عشر، يتم التركيز على الدراسات الأدبية واللغوية العربية، وهو ما ينطبق على جامعة بوزنان. أما جامعة ووج فتعرف اهتماما خاصا بالأدب العربي القديم وبالفكر السياسي العربي المعاصر، وإن كان الطلاب الحاليون أقل اهتمامًا بمشاكل الثقافة العربية القديمة لصالح الحاضر.
- كيف ترى وضعيةَ وأفق الحوار بين الثقافتين العربية والبولندية؟
- من المعروف عن بولندا أنها دولة معروفة بتسامحها وانفتاحها على الشعوب والثقافات الأخرى، وذلك منذ العصور القديمة. وتمكن الإشارة هنا إلى أن الإسلام موجود في بلدنا منذ القرن الرابع عشر. وطبعا، التاريخ يدور وأحوال الناس تتغير والظروف الثقافية والسياسية تتغير أيضا، ولكن يمكن القول إن بلدنا دائما مفتوح على الآخرين والحوار بين الثقافة البولندية والعربية ما زال قائما. قد تتغير أشكال هذا الحوار لأسباب سياسية بشكل أساس، ولكنني متأكد من كوننا نجحنا في هذا الحوار. نحن نفهم بعضنا البعض بشكل أفضل، ويبرز هنا الدور الكبير الذي يلعبه الباحثون العرب والبولنديون. لا أحب الدخول في السياسة، فهي عادة لا تساعد في الحوار، بل إنها تدمره في معظم الأحيان. وأظن أن أساس الحوار هو معرفة الآخر، ونحن كباحثين نحاول أن نرشد الآخرين إلى طرق الحوار بين الثقافتين.
- هناك كُتاب وباحثون عرب مقيمون ببولندا، منهم عدنان عباس وأحمد نظمي، وهاتف الجنابي وخلود شرف، ما الذي يمكن أن يضيفه هؤلاء إلى الثقافة البولندية؟
- هناك بالفعل بعض الباحثين العرب الذين يشاركون في الحركة العلمية الاستشراقية في بولندا. وشخصيا أقدر دورهم في تبادل الأفكار والمناهج العلمية. إذ إنهم يأتون إلى بلدنا حاملين خلفية ثقافية وعلمية ومنهجية مختلفة، وهو ما يشكل مصدر إغناء متبادل، خصوصا أن هؤلاء الباحثين يتناولون الثقافة العربية وفق نظرة مغايرة تنبث من داخل العالم العربي وتنمو خارج أوطانهم مانحةً نَفَسا جديدا للاستشراق البولندي.
- تحتفظ العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب بمظاهر سوء التفاهم، ما الذي يمكن أن تقدمه الترجمة على مستوى تجاوز هذ الوضع؟
- أشرتُ سابقا إلى دور الترجمة في التفاهم بين الثقافات، وأود أن أضيف أن ترجمة النصوص من اللغات الشرقية عامة ليست ترجمةً للكلمات أو للجمل ولا للمعاني، بل هي ترجمة للثقافة بمختلف مكوناتها ومظاهرها. وبالطبع هذا ما أقوله عن الترجمة من العربية إلى البولندية وإلى اللغات الغربية الأخرى وأيضا عن الترجمة من هذه اللغات إلى العربية. ولذلك تمتلك الترجمة دورا بارزا في تجاوز سوء الفهم الذي تحدثتَ عنه. بينما يكمن العامل الحاسم في إرادة الفهم أو التفاهم من كلا الجانبين، أما الأدب فلا يمتلك القدرة على تغيير الناس. وكما جاء في القرآن: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».