حوار مع البلاغي المغربي محمد الولي
حياة الشخص أقرب مادة قابلة للصياغة والحبكة الحكائيتين
حاوره: محمود عبد الغني
استدرجنا الأستاذ محمد الولي، البلاغي العربي المعروف، إلى الحديث عن جنس السيرة الذاتية، ضمن هذا الملف الذي خصصه الملحق الثقافي لموضوع «المغاربة وفن السيرة الذاتية»، فوجدنا فيه باحثاً بلاغياً وشعرياً قارئاً للسيرة الذاتية المغربية، ومنقباً في الأغوار عن صيد البلاغيين والشعريين الثمين: الأسلوب، الحجة، الكلام والكتابة. هنا نص الحوار، قراءة ممتعة.
جل الروائيين المغاربة بدؤوا مسارهم الأدبي بكتابة سيرهم الذاتية: التهامي الوزاني، بنجلون، الشاوي، شكري، غلاب…، كيف تفسر ذلك؟
لا شك أن نزعة الحكي متأصلة في الإنسان. ربما كانت الأساطير هي الحكايات الأولى التي ابتكرها الإنسان وحملها تصوراته لنشأة الكون وخلق كل الكائنات. لهذا نجد العلماء يصطنعون مصطلحا جديدا لتعريف الإنسان باعتباره homo fabulator فالإنسان أصبح يعرف بوصفه خالق حكايات. مقابل الإنسان مستعمل رموز homo symbolicum إلى غيرها من التسميات من قبيل الإنسان سياسي homo politicus لأرسطو، والإنسان لاعب Homo Ludens لجُوهَان وِيزِينْغا وغيرها من التحديدات التي تعرف الإنسان بواحدة من كفاءاته.
هناك نزوع متأصل لصنع الحكايات عند الإنسان. لهذا يقول بارْتْ بأن «الحكايات تبدأ من بداية التاريخ، بل تبدأ مع بداية الإنسانية». أعتقد أنه من الصعوبة بمكان تقديم سجل كامل لأجناس الحكي. ومع ذلك فإن السيرة الذاتية هي أحد هذه الأجناس.
يقول جَانْ مُولِينُو ورفَائِيل مُولِينُوا لفْحايْلْ:
«بما أن الطابع المطلق الحضور والمُؤسس لسيرة الحكي، فمن المباح التساؤل عن مصادرها والانطلاق بهذا ليس نحو حكاية افتراضية بدئية، ولكن الانطلاق من تنوع الحكايات «الأولية». ينبغي أن نضيف بأنه، تبعاً لِجِيرُوم بْرْونِيرْ، يوجد نمطان أساسيان من المعرفة وانتظام العالم، متكاملان، ولكن لا يمكن اختزال أحدهما في الآخر. أحدهما هو النموذج البراديغماتي أو المنطقي العلمي، يسعى إلى الإحاطة بعالم الأشياء بملاحظة الظواهر وبتفسيرها اعتماداً على الحجاج العقلي rationnelle . والثاني هو الطريقة السردية، التي تعنى ليس بعالم الأشياء ولكن بالعالم الاجتماعي، وبالأفراد وعلاقاتهم. إنه ينهج طريق إنشاء القصص التي تمثل وتنتظم في نفس الآن العالم الاجتماعي. إن طريقتي التفكير هذه تتطور بالتوازي، إلا أنه من المحتمل أنه على صعيد النشأة phylogenèse نجد الفكر السردي سابقاً لطريقة الفكر المنطقي». وفي السياق نفسه نفهم فكرة بْيِرْ جَانِي: «إن السرد خلق الإنسانية».
فحياة الشخص أقرب مادة قابلة للصياغة الحكائية. بل هي المادة الأطوع للهيكل الحكائي، أي الحبكة. إن كل عناصر الحكي، التي تحدث عنها أرسطو في الشعرية، قائمة هنا: الحدث والشخوص والزمان المكان والفكر واللغة الخ.
إذن حياة الشخص أطوع مادة لصنع حكاية. ونظراً لهذه الوشائج القوية بين السيرة والرواية، فإن بعض النصوص الروائية قد نجد لها سحنة سيرة، والعكس صحيح. الخ
وفوق هذا فإننا نلاحظ أن الإنسان له نزوع قوي لكي يحكي في خطاب حياته. قد يكون ذلك مستجيبا لدافع إنساني لاشعوري وكوني. إنه الحكي الذي يميز الإنسان homo fabulator . والإنسان في حكايته السيرية يسعى إلى الإمساك بالعناصر التي يعتقد أنها تشكل حياته. هذه العناصر لا تتمتع بوجود فعلي قبل صياغتها في خطاب.
بدأت السيرة الذاتية والتخييل الذاتي ينافسان أجناس الأدب الكبرى، كيف هو الوضع في الأدب العربي؟
لا أعتقد أن السيرة يمكنها في يوم من الأيام أن تنافس الرواية. صحيح هناك بروز ظاهرة السيرة. وهذا قديم على كل حال. السيرة تنويع سردي على ضفاف الرواية أو الحكي. هذه السيرة التي نتحدث عنها هي سيرة المفكرين عندنا. هؤلاء كثيرا ما فكروا في أن الحكاية تتيح لهم فرصاً مهمة للحديث في أمور لا يسمح الخطاب العلمي بالحديث عنها. أو لا يتيح الفرص التي تتيحها السيرة. إن السيرة هي فن مرح، ويرفع الحرج، وإلى حد ما متمرد على القيود العلمية الصارمة. العلم لا يستسيغ خطاب الذات كما السيرة. لهذا السيرة تغطي هذه الحاجة. إنها، إذن، العودة إلى الذات. وعلى الرغم من أن السيرة فن سردي، فلا بد من تبديد سوء فهم: «إنها فن غير مريح، وإن كان مقيدا بالذاكرة أكثر من التخييل».
شاعت وتطورت نظرية الكتابة الذاتية منذ منتصف التسعينيات، هل لهذه النظرية تأثير في نظرية الأدب؟
أعتقد أن السيرة لها تأثير ما في نظرية الأدب. إنها تفوز بحقها من نظريات السرد. لأنها هي نفسها فن سردي، يغلب الاعتبارات الذاتية والواقعية. وهذه تبدو مفارقة، أي الجمع بين عناصر الصدق الموضوعي والعناصر الذاتية. إن هناك شبه اتفاق ضمني. ربما هذا ما يقصده فِيلِيبْ لُوجُونْ بعنوان كتابه: الميثاق الأوتوبوغرافي le pacte autobiografique، وعلى كل فإن صدق السيرة نسبي جدا، لأن المؤلف يبدي لنا الصورة التي نالت استحسانه. هنا عملية انتقاء قوية جدا تجعلنا نشك كثيرا في صدقية السيرة. إن السرديات قد تغتني وتتوسع بالتقنيات التي تعرضها السيرة.
علاوة على هذا، هناك كثير من السير الذاتية التي تلتبس برواية ما. إذا سلمنا بأن سيرة طاهر عبد الحكيم الأقدام العارية، تحكي عن معاناة الشيوعيين المصريين في المعتقلات الناصرية. طبعا هذه السيرة يمكن أن نقول عنها إنها سيرة جماعية. والمثير حقا أن أحداث هذه السيرة تلتبس بأحداث الرواية الرائعة لشريف حتاتة: العين ذان الجفن المعدنية وجناحان للريح والهزيمة. لهذا أزعم أنه في بعض الأحيان تنطمس الحدود بين هذين الفنين السرديين. لم أتفاجأ وأنا أرى الصديق محمد أقضاض يصف سيرته بأنها سيرة روائية.
نريد أن نعرف عنوان السيرة الذاتية، في الأدب العربي أو الغربي، التي أثارت إعجاب البلاغي محمد الولي.
في الحقيقة السير التي نالت إعجابي في المغرب هي تلك التي تعبر عن كفاح المواطن ضد الطغيان. السير التي تحكي عن سنوات الجمر في السبعينات. هي سير ثلاثة أصدقاء، ألا وهم الأساتذة محمد أقضاض، في سيرته جمر تحت الجلد، ومحمد العمري في سيرته الطلبة والعسكر، وسعيد بنكراد في سيرته وتحملني حيرتي وظنوني. هي كلها تحكي من بين أمور أخرى عن الاعتقال والتعذيب البوليسي الوحشي.
إنها، إذن، سير تقصد إلى الفعل Action. أي لم تكتب لأجل التسلية الفنية، بل كتبت للمساهمة في التغيير، أو أن الأحداث المعروضة في السيرة كانت تندرج ضمن حركة نضالية تستهدف إقامة ديموقراطية حقيقية وتوفير حياة كريمة لكل المواطنين.
يقول بنكراد في سيرته وتحملني ظنوني:
«واصلوا تعذيبي أياما عديدة، كان الجلادون بدون رحمة، وقد قيل لي بعد ذلك إن بعضهم كان من مخلفات الاستعمار، وإنهم اشتغلوا في صفوف الشرطة في تلك المرحلة كجلادين. وتعفنت قدماي من شدة الضرب بالكرباج، ولم أعد قادرا على الوقوف أو المشي أو الحركة داخل الزنزانة، ولم أعد قادرا على قضاء حاجاتي الطبيعية في المرحاض. وأُصبت بحمى شديدة، وبدأت أرتجف وأهذي وأصرخ من الألم. كنت أدخل في غيبوبة لساعات ثم أستفيق، ويعاودني الألم ثم أغفو، وقد اختلط علي النهار بالليل ولم أعد أعرف كيف أفرق بينهما، وبقيت على تلك الحال أياما لا أذكر عددها».
إن الفقرات التي تعبر عن هذا الفضح للاستبداد كثيرة في سيرة سعيد بنكراد. مثل هذه الفقرات لها دور أساسي هو الاحتجاج على النظام القمعي. السيرة هنا ليست ترفا استطيقيا، ليست حلما لذيذا، بل هي دعوة إلى الفعل. أي فعل التغيير. ويمكن أن نجد في سيرة العمري زمن الطلبة والعسكر احتجاجاً على الأوضاع المزرية التي كانت تعيشها المؤسسة التعليمية، وكعادة العمري لا ينسى توضيح خطابة بزي السخرية.
من موقعك كدارس للبلاغة والشعرية، ما بلاغة وشعرية السير الذاتية؟
لا بد من توضيح منذ البداية. يتعلق الأمر بضربين من البلاغة. الأول هو البلاغة الحجاجية. أي التي تعنى بالمقومات الحجاجية والإقناعية في أي خطاب شفوياً كان أم كتابياً. وربما حتى في الكلام غير اللفظي كالتصوير والموسيقى الخ.
لا شك أن السير التي تعرضنا إلى بعض نصوصها نلاحظ أن همها المتجذر هو أولا الكشف عن الخلل في العلاقات الإنسانية. والوضع المزري الذي تتعرض له الإنسانية.
الضرب الثاني من البلاغة هو البلاغة الشعرية. إن حضورها في هذه النصوص يختزل في الحدود الدنيا، الغاية ليست شعرية. الغاية ليست احتفالية. إن الغاية هي إسقاط الأقنعة والدعوة إلى الاشتراك في المعارك الإنسانية المصيرية، حيث يكتسب الإنسان كرامته. بل حتى في حال وجود مقومات هذه البلاغة منتشرة في هذه النصوص فإن الغاية هي الإقناع وليس الإمتاع.
لماذا يكتب المغربي سيرته الذاتية؟
نزار التدجيتي: المغاربة اعتادوا على البوح بهموم الذات ولواعج الفؤاد
عبد اللطيف الوراري: أنظر إلى السيرة الذاتية بوصفها نصًّا مرجعيًّا
يؤكد الباحث والمترجم نزار التدجيتي بأن المغاربة اعتادوا على البوح بهموم الذات ولواعج الفؤاد. والنصوص التي نُشرت إلى حد الآن – وما أكثر المخطوطات المغربية التي ما زالت قيد الخزانات الخاصة والعامة – تؤكد هذا الزعم. الكاتب المغربي −بطبعه –قلمٌ لا يُداهن. والشاعرة المغربية –بحكم شخصيتها –صوت لا يكفّ عن الشهادة ضدّ الغياب. لذلك، ليست الكتابة عن الذات وشجونها جنسا غريبا عن المتأدبين والعلماء والمثقفين المغاربة. وأضاف أننا، قديما، نعثر على شذرات من السّيرة الشخصية حاضرة في كتب الفهارس والتراجم والسير والأنساب وتقاييد الأسفار والرحلات وكنانيش الكرامات والمناقب الصوفية.
ودعا الباحث إلى ضرورة القيام بقراءات جديدة تطرح الصور الجاهزة اللصيقة بهذا الأدب المتأثر بمحيطه القريب شرقاً وغرباً منذ قرون. ففي عصر الأنوار حيث باح روسو بـ«اعترافاته» العارية كما أوعزت له بها حرية رومنطقية جارفة، تميّز أديبان مغربيان على الأقل بنصين منسيين يعكسان لنا صورا مخالفة للذات الجماعية تكاد تنفلت من أسر الثقافة السلطانية: أحدهما، «ثمرة أنسي في التعريف بنفسي» لأبي الربيع سليمان الحوات، وهي فهرسة فرغ منها مؤلفها عام 1790؛ وثانيهما، «الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برّا وبحرا» (1817) لأبي القاسم الزياني، وهي رحلات وأسفار يتقاطع جنسها مع الترجمة والمذكرات.
وعن دوافع الكتابة عن الذات، قال التدجيتي إن المغربي يكتب عن الذات للانعتاق من سلطة البلاغات الجاهزة أو مقاومة الاحتلال والاستبداد. في الثلاثينيات من القرن 20، شرع الشيخ التهامي الوزاني بتطوان في نشر الجزء الأول من سيرته «الزاوية» (1942). وإذا كانت سلطة الحماية منعت طبع الجزء الثاني من هذه السّيرة الأولى من نوعها في الأدب المغربي الحديث ونهبت أوراقه، فلأن صاحبها سرد فصولا من تاريخ المغرب الممنوع ومارس فعل المقاومة ضد فكر الاستعمار وأدب أذنابه. في سياق هذا الانفتاح على الأدب العصري الوافد من الشام ومصر، نشر عبد المجيد بنجلون «في الطفولة» (1949). وفي حضن السلفية الإصلاحية والوطنية، دوّن أيضا الطالب قدور الورطاسي «ذكريات سيرتي في فاس» أيّام الطلب والنهوض في الثلاثينيات.
ومن جهته، قال الشاعر عبد اللطيف الوراري، الباحث المتخصص في السيرة الذاتية، إنه ينظر إلى السيرة الذاتية بوصفها نصًّا مرجعيًّا، هدفها ليس «أثر الواقع» كما في الرواية، بل «الحقيقة». ولكن من النادر أن نجد مؤلّفًا قد أقسم بأغلظ الأيمان أن لا يقول إلا الحقيقة، وإن كان هذا الأمر لا يقطع مع رغبته في أنّ ما يحكيه عن ذاته ينبغي أن يكون حقيقيًّا، وأن يكون صادقًا، وأن يحكي ذكرياته كما عاشها، أي يعيد إنتاج الحقيقة مثلما عاشها، والعالمَ وفق رؤيته. فهو ذات النص وموضوعه في آن. إنّه «الشخص الحقيقي»، وهو وحده من يمكن أن يحتمل ما يقوله ويتحمّل الصدق فيه، أي يتحمّل مسؤولية تلفُّظه عند وضع اسمه على ظهر الغلاف، باعتباره شخصًا نفسيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا. وهذا التشبُّث بـ«الحقيقي» يميّز السيرة الذاتية، لكن لا يغلقها. وأضاف أن صاحب السيرة عندما يتذكّر، فغالبًا ما ينسى حقيقة ما مضى من ذكرياته؛ ولذلك يصفها بطريقة رومانسيّة حالمة، ورمزية خاصة، مع ما يستتبعه ذلك من تخييل ومحو وتحويل يمضي في اتجاه ابتكار هويّته. فمن غير البديهي أن يحكي المؤلف عن نفسه من غير أن يعيد اكتشافها، وهو ما يمنح لعناصر مبعثرة من مسار حياته التي لم تكتمل بعد، معنىً وانسجامًا.