شوف تشوف

الرأيالرئيسية

المطربون والمهرجون والراقصات

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

يعرف انحطاط الأمة بالفن الهابط والموسيقى الصاخبة ومزج الغناء بقلة الحياء، ولعب الكرة بإنفاق 220 مليار دولار. والطبيب يعرف حرارة المريض بميزان الحرارة، فيفهم لماذا يهذي من فوعة الحمى؟ والمؤشر للمرحلة الحضارية التي تمر بها الأمة هو الإنتاج الفني. فإن كان الموجهون هم الفلاسفة والمفكرون فهي مؤشر النهضة. وإن كان المتربعون على عرش التوجيه الرقاصات والطبَّالون ولاعبو الكرة، فتودع من الأمة. والهابطون يفهمون الفن تخلصا من الأخلاق. وعندما اعترض لوط على قومه أتأتون الذُّكران من العالمين؟ قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون. وجريمة لوط باختصار كانت النظافة الأخلاقية.

إن كان الفن هادفا امتزجت الكلمة الجميلة مع الموسيقى المنعشة، وإلا جمع الخمر والمعازف والحر والحرير كما جاء في الحديث. والمتشددون لا يفهمون هذا الأمر ويظنون أن الغناء والموسيقى حرام على إطلاقه. ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة إلا بفرقة موسيقى تنشد له ضربا بالدف، طلع البدر علينا. ولكن المتشددين يقرؤون النصوص بعيون الموتى، ولا يدركون أنه لا توجد آية واحدة في تحريم الموسيقى والغناء، وكل حديث يستشهدون به ضعيف. كما في حديث أن الله يصب الرصاص المذاب (الآنك) بدرجة حرارة 800 مئوية في الأذن الوسطى لمن سمع غناء امرأة (قينة)، مما تعجز عنه مخابرات البعث وستالين. ومنه يجب فهم هذا المزج بين الخمر والموسيقى، فمن أذهبت الخمرة عقله استمع إلى غناء عاهرة، أو راقصة بطن تجيد دغدغة الغرائز. ولكن بين المتشددين وبين هذا الفهم مسافة سنة ضوئية.

وفي يوم كان الأستاذ مالك بن نبي زائرا لنا في دمشق عام 1971م، فسأله أحدهم عن الحكم في الغناء والموسيقى؟ فأجاب: إنني لست مفتيا، ولكنني أرى في الفن مؤشرا على المرحلة الحضارية التي تمر بها الأمة.

وفي لبنان هجم الناس على التلفزيون وهم يهتفون: «بالروح بالدم نفديك يا ملحم»، كما اعتاد العرب الهتاف للديكتاتوريين في بلادهم، واشتبكوا في معركة بالأيادي والأقدام، وحملت النقالات إلى المستشفى منافستين له قد أغشي عليهما من الرعب.

وفي يوم تحمس الناس لجائزة المليون وانتشرت دعايات للعطور باسم مروجها، حتى عرفنا أن أصل الفكرة أمريكي. والمسابقات الحالية أيضا أصلها أمريكي. فكان الفنانون مقلدين وغير مبدعين ثلاث مرات، بالنقل الأمريكي وبالتقليد بلهجة ليست لهم وبأغان لم يبتدعوها. والفن الكلاسيكي حتى اليوم يعتبر قفزة نوعية في الموسيقى، وموسيقى موزارت لمسة من وهج العبقرية. واليوم يوجه عقول الجماهير العربية الفنانون، ويتحكم في التوجيه المطربون التافهون، أو المشعوذون من أدعياء الكيمياء الذين يزعمون أن الباذنجان فيه من النيكوتين أكثر من علبة سجائر، فيحرمونه مثل تحريم الباميا عند يزيديي جبل سنجار من عبدة الشيطان. إلى درجة أن بعضا من النساء أضفن من خلال وصفات الشعوذة فوق المرض مرضا.

ولا يمر يوم إلا وأكتشف لونا جديدا من الدجل، مثل ظهور كلمة الله مختومة على الشمس، أو أن كلمة الله طبعت على أمكنة غير لائقة، أو أن الشهادة مرسومة بشرايين القلب. أو أن الشيخ العمري في عسير انطفأت له النيران، بعد أن أعيت القوم بما هو أفضل من إطفائيات مونتريال. وبين الحين والآخر يلمع نجوم من الوعاظ السحرة الجدد، فتتمايل الجماهير طربا لأحاديث ليس فيها مسحة من علم أو أثارة من وعي.  وكلها علامات على المدى الذي وصلت إليه الأمة من التفسخ واندثار الوعي، فلا عجب أن ركبت على ظهورهم شياطين الديكتاتوريات.

وأتذكر حين سمعت خبر تعويضات ليبيا عن طائرة لوكربي بـ2,7 مليار دولار، قبل أن تخسف بالعقيد المجنون الأرض ويصبح سلفا ومثلا للآخرين.  والاعتراف بالمسؤولية هو تأكيد جديد على أيام السحر التي يعيشها العرب. وفي مناسبة إصدار العدد عشرة آلاف من جريدة «الاتحاد» الإمارتية، دعي أئمة الصحافة من العالم العربي، وأعدت للحضور قاعة فخمة بكراسي مريحة وتكنولوجيا مميزة لنقل الصوت والصورة. وعلى الغداء كانت تعزف الموسيقى وتقوم عارضات الأزياء بعرض آخر الموضات. وكان عدد الحضور لسماع أهم أخبار الكلمة المكتوبة لا يزيد في كل محاضرة على خمسين شخصا في المتوسط. وكانت برفقتي زوجتي، فسألت عن الحضور: هل هو مفتوح لمن يريد، أو هناك قصد لتحديد العدد، باعتبار هذه الكلفة العالية في أفخم فنادق البلد؟ قال المسؤول: بكل بساطة لا، ولكن لا يوجد من يهتم بالثقافة.

وكانت المفاجأة مزلزلة حينما خيم الليل وجاءت مطربة لبنانية، فلم نجد لنا مكانا في القاعة، وامتد العشاء مع الموسيقى حتى مطلع الفجر، ووصل قرع الموسيقى المجنونة لمسافة خمسة كيلومترات. وفي الصباح كان أحد المتحدثين من الأدمغة اللامعة الإماراتية، فلم يزد الحضور على عشرين شخصا، فعلق الرجل بحسرة: لعلها من بركات مغنية الليل.

نحن مدعوون لقراءة الفاتحة على روح الأمة.

 

نافذة:

اليوم يوجه عقول الجماهير العربية الفنانون ويتحكم في التوجيه المطربون التافهون أو المشعوذون من أدعياء الكيمياء الذين يزعمون أن الباذنجان فيه من النيكوتين أكثر من علبة سجائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى