المصائر الغامضة في تونس
خالد فتحي
لم يكن أبرع المخرجين ليتخيل سيناريو انتخابيا، كالذي حصل في تونس في الجولة الأولى للانتخابات: مرشح معتقل بقضايا فساد وتهرب ضريبي يواجه أستاذا متقاعدا للقانون. الواقعة جديدة، ولا يوجد لها مثال سابق للقياس عليه كما يقول الفقهاء. ولذلك يكون هذا السجن قد أفسد الاستحقاق الانتخابي، الذي كانت تونس تعول عليه لترسيخ ما راكمته من تقاليد ديمقراطية خلال فترة ما بعد ثورة الياسمين، ومنعها من تقديم درس كعادتها لأخواتها من دول العالم العربي.
المشهد حمال تأويلات، إذ هناك من يراه دليلا ساطعا على استقلال القضاء الذي لا يميز بين المواطنين، وبوسعه أن يطول حتى مرشحا للرئاسة، دافعا بأن ما يقع للقروي يساهم أيضا في توضيح الصورة أمام الناخب التونسي، ليختار رئيسه عن بينة وبصيرة. وهناك من يرى أن الأمر مؤامرة حيكت بليل، لمنع هذا المرشح المثير للجدل المسلح إعلاميا من دخول قصر قرطاج، فليس هناك ما يمنع من إطلاق سراحه بضمانات أو حتى بسوار إلكتروني، خصوصا وأنه ليس مدانا، وذلك حتى لا يختل شرط المساواة بين المرشحين.
ولكن دعونا نتخيل مختلف الاحتمالات التي تستقبلها تونس في حال استمرار هذا الحبس، ومنع القروي من مناظرة قيس سعيد: إذا تم انتخاب قيس سعيد أمام منافس مسجون وممنوع من الكلام، فذاك سيشكل ضربة قاصمة لمنصب رئاسة الجمهورية الذي سيصبح باهتا أكثر مع رئيس له منسوب ناقص من الشرعية الديموقراطية بسبب انتصاره على منافس مكبل، وهو ما سيزيد في تقوية منصب رئيس الحكومة دستوريا وواقعيا، وبالتالي تكون الأحزاب المعاقبة خلال هذه الانتخابات قد ثأرت لهزيمتها بسرعة، وعاقبت بدورها الشعب (المتنطع) الذي يختار من خارج المنظومة وبدلا منها مرشحا مشبوها في زمن ما بعد الثورة، وآخر مغمورا بدون رأسمال سياسي واضح. كل ذلك من خلال تتفيه منصب الرئيس ودفعه أكثر نحو أن يصبح مجرد منصب بروتوكولي لا غير، خصوصا وأن قيس سعيد لا حزب له. وهذا يرد بعض الكرامة المفقودة للشاهد والزبيدي وحتى النهضة، ويجعل من التوافقات بشأن الحكومة أس السلطة بتونس.
أما إذا فاز القروي، فما العمل؟ هل يصبح محصنا بمجرد الفوز، أم بعد أداء اليمين الدستورية؟ ولكن كيف ومتى يخرج من السجن لأجل ذلك؟ هل بعد تسريع البت في قضيته وتبرئته؟ وهنا سيطرح السؤال حول أسباب عدم فعل ذلك خلال الحملة الانتخابية، أم سيخلى سراحه بدون ذلك من خلال الإفراج عنه، لأنه صار رئيسا. وهنا سيطرح سؤال أخلاقي بخصوص الاعتراف من قبل القضاء بفوز شخص حامت حوله شبهات لم يتم الحسم بشأنها، وبالتالي يكون رئيسا ضعيفا أيضا.
لكن هناك سيناريو آخر يبدو أن هناك من يخطط له يتجلى في أن تتفتق اجتهادات البعض وربما تربصاتهم عن طعون تؤدي إلى إلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية برمتها والعودة إلى نقطة الصفر، بعدما تكون الانتخابات التشريعية قد مرت، وبالتالي تبنى على أساسها التحالفات الجديدة لانتخاب الرئيس الجديد على اتفاق، وهذا ما كان سيقع لو أن الرئيس السبسي أمهله الموت قليلا وأتم ولايته إلى نهايتها.
تبدو الأمور إذن غير واضحة في تونس، وتبدو الأحزاب التقليدية كما لو أن اعتقال القروي لا يسوؤها، فقد يكون طريقها لإعادة استنساخ التجربة السابقة التي في صالح المنظومة الحزبية المهزومة.
المفاجأة الأخرى أن يصبح حزب قلب تونس رقما في المعادلة داخل مجلس النواب. آنذاك هل يكون في المعارضة أم في الحكومة؟ وما تأثير ذلك على الانتخابات الرئاسية؟ الاحتمالات متعددة وربما لا يسعف في معرفتها سوى انتظار حدوثها. خيوط كثيرة ومتشابكة جدا لدرجة أن كل المصائر أضحت ممكنة. فما كان أغنى تونس عن مثل هذه المتاهات، وقد كان يلزمها لذلك فقط أن تحكم قوانينها أكثر وتنشئ محكمتها الدستورية، فتتفادى كل هذا التوجس من المستقبل. هي ورطة تونسية حقيقية تجعل كل المنظومة السياسية ترتطم في النهاية بالحائط. بالخارج. أحيانا تستغل الديمقراطية فتصبح جزءا من المشكلة.