المسلمات والبديهيات
من أعجب الأمور تلك التي اتفق الناس على تسميتها بديهيات. وإذا أراد الإنسان أن يوقف كل حركة للتفكير، قال إن هذه بديهية مثل حركة الشمس، ولكن الذي تبين أن تصور البشر عن حركة الشمس كان خاطئا. وتم تعذيب الناس وقتلهم من أجل بديهيات أصغر من ذلك.
ومن أصعب الأمور وأحفلها بالتحدي مد اليد إلى مواضيع حساسة، اتفق الناس على اعتبارها بديهية لا تلمس. فلا يمكن الإمساك بها، أو جلبها إلى الضوء وإخراجها من الظلام المحيط بها. فإذا لم يستمسك الإنسان بالوعي ويعض على هذه المواضيع بالنواجذ، تفلتت من يده ولم تعقب. ومنه قال القرآن: «فاستمسك بالذي أوحي إليك»، أو قوله بالتشديد: «والذين يمسِّكون بالكتاب». وأصعب شيء على الإنسان هو الخروج من الآصار والأغلال، التي عقدها و«نسجها» الآباء «لسجن» الأبناء فيها بكل حب وحرص.
هذا الشيء هو أصعب ما يعانيه الناس، فإذا كشف أحدهم ثقبا للخروج من الظلام، فسرعان ما يغشاه الظلام وتسده الأوهام. ولكن ألا يوجد مخرج على الإطلاق؟
لنتأمل كيف عاش الناس قبل أن يستأنسوا الحيوان وقبل الزراعة، وكيف عاش الناس مع عضلة الحيوان، ثم كيف دخل البشر إلى عالم الطاقة من البخار والنار والذرة، وكيف كان الإنسان من قبل يؤكل لحمه ويذبح قربانا برضاه.
علينا أن نفهم الحدث الإبراهيمي، وأن الخروج من «نسج» الآباء صعب للغاية، لهذا كان عدو إبراهيم أباه آزر، وعدو نوح زوجته وابنه.
إن مفتاح الحقيقة هو التشبع بالوعي التاريخي.
جرت العادة أنه من الأمور المستحيلة مناقشة البديهيات، كعدم جواز وجود الشيء ذاته في مكانين في الوقت نفسه، وأن العشرة أكبر من الثلاثة، وأن يكون الوجه مكشوفا باعتباره مركز الحواس، حتى ترى العين ويتنفس الأنف وينطق اللسان.
ولكن مع ضغط الثقافة يمكن أن يشك المرء في البديهيات، فيعتقد أن البشر آلهة، أو أن للحاكم عيون أقوى من تلسكوب هابل، وأن جواسيس السلطان موجودون في كل مكان في الوقت نفسه. وأن هناك من ينطق باسم الله بالوكالة في حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها، فيختلط البشري بالإلهي، ويحتكر «النص» لحساب «فهم» معين للنص. أو أن الله انشطر إلى ثلاثة، بدون أن ينشطر في أحجية عجزت الكنيسة عن تفسيرها حتى اليوم. أو أن أفرادا معدودين من حزب هم في الميزان أثقل من كل الأمة. أو أن يعتقد أن الذكر خير من الأنثى، مثل لو قال أحدنا إن الليل خير من النهار، وإن العين اليمنى خير من اليسرى، أو أن يمشي المرء بساق واحدة قفزا، أو أن الوجه يجب أن يغطى ومعه إغلاق منافذ الحس الخمس وتحول الإنسان إلى شبح. ومع أن العلماء يصرحون سرا أن الأمر خلافي، ولكنهم يخافون من تهييج العامة عليهم، وبذا تسود شريعة الدهماء حينما يسكت العلماء.
وهكذا فيمكن للعقل أن «يعتقل» كما في دائرة «اليزيدي»، وهم طائفة يعبدون الشيطان ويسمونه طاووسا، وأنه مستخلف لحكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة، كله من أجل فهم فلسفة الشر في العالم. ومما يشاع عنهم أنه وعند رسم حلقة في الأرض حول أحدهم، انحبس فيها حتى يأتي من يفتحها له.
إن ضغط الثقافة مخيف وساحق، ويمكن للعادة أن تعطل أي نص وتقتل أي تفكير. ويمكن للتقاليد في بعض المناطق أن تسمح بقتل الأنثى في الانحراف الجنسي، وتسكت عن خطيئة الذكر بشريعة الفحولة أكثر من العدالة، وبنص من «الواقع» أقوى من النص المنزل من السماء. ويمكن أن تولد نسخة مزيفة من إسلام ضد الإسلام. ويمكن للثقافة أن تقلب صورة المجتمع الإنساني إلى ذكوري، فلا ترى في الشوارع إلا الرجال، ولا تسمع صوت المرأة إلا همسا. وإن سألها الطبيب عن عادتها الشهرية، أجابه زوجها بالنيابة في صورة يبرع فيها الكاريكاتور أكثر من الحقيقة.
صحيح أن الرياضيات كسرت المسلمات، فاعتبرت أنه يمكن خروج أكثر من خط مستقيم بين نقطتين، أو على العكس أن لا يخرج أي خط، كما في هندسة «رايمان» و«لوباتشفسكي»، محطمة بذلك هندسة إقليدس التقليدية. أو كما في النسبية، حينما اعتبرت أن زيادة أي سرعة فوق سرعة الضوء لا تزيد السرعة سرعة. ولكن هناك الكثير من الأمور يتفق عليها الناس أنها بديهيات، وهي لا تزيد على خرافات، مثل أصنام قريش التي اعتقد المشركون أنها تضر وتنفع، أو أن المرأة يجب أن توأد في القبر أو البيت، أو أن الأبيض أجمل من الأسود إلى درجة امتلاء القواميس بكل ألوان الخبث المربوطة باللون الأسود، مثل «القلب الأسود» و«الأفكار السوداء» و«ملابس الحزن السوداء» و«العبد الأسود»، الذي خلده الشعر العربي أن لا يشترى إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد، أو أن المرأة «مركز الفتنة» وأنها «قاصر» تحتاج إلى الوصاية عليها من المهد إلى اللحد، فتسلم بالبريد المضمون من يد الأب إلى يد الزوج. وما زالت الثقافة الإنسانية حتى اليوم تستقبل ولادة الذكر بأفضل من الأنثى. أو أن هناك أصحاب امتيازات في الشمال يجب أن يتمتعوا بـ80 في المائة من خيرات العالم، وأن ينحدر 80 في المائة من سكان الأرض إلى حافة الفقر، وأن يضع الغرب في جيبه ثمانية قروش من كل تسعة قروش ونصف القرش في العالم، كحق طبيعي مسلم به غير قابل للنقاش. أو أن تعريفه للإرهاب هو المرجع في تحديد من هم الإرهابيون، كما في قصة «أبو ليث الصفار» التي أوردها «خاتمي»، رئيس الجمهورية الإيرانية السابق، في كتابه «الفكر والدين في شراك الاستبداد»، فقد اجتمع حول الشقي آلاف العيارين والحرافيش والزعران والشطار، فعاثوا في البلاد وروعوا العباد، وخطر في بال زعيم العصابة أن يتوجه فيحتل بغداد. فقام من حذره من «بيعة الخليفة»، فالتفت إلى أحد مساعديه الأشقياء، وقال له: إنهم يذكروننا بعهد الخليفة العباسي في بغداد. هات لنا «عهد» السلطان نقرأه على الناس. فلم يلبث أن عاد بسيف ملفوف بخرقة، فامتشق الحسام ثم صرخ في الناس: أيها القوم إن ما أجلس الخليفة في بغداد هو هذا السيف، فعهدي وعهد الخليفة واحد كما ترون. هلم إلي وبايعوني على السمع والطاعة.
بقلم: خالص جلبي