شوف تشوف

الرأيالرئيسية

المستشرقون والتنقيب عن النصوص

حين بدأ المستشرقون يتناولون تراث الإسلام بالدرس، قبل نيف وقرنين، كانوا يحملون معهم خبرة علمية طويلة في مجالدة نصوص التراثين اليوناني والروماني: تنقيبا وتحقيقا وبحثا؛ بل كانت قد انتهت إليهم مكتسبات درس علمي مديد مَثَّـلَتْ موضوعَه الرئيس أسفار العهدين القديم والجديد.

لذلك كان يسعهم أن يستقبلوا ذلك العالَم الثقافي والديني الجديد، الذي استقبلوه حينها (= أي الإسلام)، مزودين بالعتاد المعرفي المناسب: بالأدوات والمفاتيح التي اختُبِرت في عوالم ثقافية ودينية أخرى وأثبتت نجاعتها، والتي يمكن إعادة إِعمالها في مادة الدرس الجديدة. ولما كان معظم المستشرقين الدارسين للإسلام يتقنون لغات الإسلام الرئيسة (العربية، الفارسية، التركية…)، كُلا أو بعضا، فقد ارتفعت عنهم الموانع وتهيأ لهم ميدان البحث في تراث الإسلام من باب حيازتهم الأدوات الكفيلة بذلك.

ولقد اكتسى الاشتغال العلمي بتراث الإسلام عندهم شكلين: إما التأليف فيه – درسا وتأْريخا وتحقيقا ودراسات مقارِنة…- أو ترجمة نصوص منه إلى واحدة من اللغات الأوروبية الحديثة والتعليق عليها، لكنه سلك، أحيانا، مسلك الجمع بين الأسلوبين لدى الباحث الواحد منهم. ومثلما كان العمل الفردي دارجا ومألوفا لدى أغلب المستشرقين، كان للعمل الجماعي نصيب ملحوظ أيضا. وهو عينه ما يلحظه المرء في علاقات إنتاج المستشرقين بالمؤسسة؛ ففيما كان قسم من دراساتهم قد أُنْجِز بتمويل من جامعات ومراكز دراسات، بل ومن شركات ووزارات (= الخارجية أساسا)، أُنْجز قسم ثان بمبادرات فردية من الباحثين أنفسهم ولأهداف علمية في الغالب. على أنه، في الحالين، ظل على المستشرقين – خاصة من الأجيال الأولى في القرن التاسع عشر- أن يقطعوا في عملهم الدراسي شوطا يمر بمحطات ثلاث لا سبيل إلى القفز على إحداها: التنقيب عن النصوص، تحقيقها تحقيقا علميا، ثم دراستها. لنتناول أولى هذه المحطات لأساسيتها، خصوصا في حقبة لم تكن فيها مخطوطات التراث العربي الإسلامي قد وجدت طريقها بعد إلى النشر.

وقع التنقيب عن نصوص التراث العربي الإسلامي على مراحل مختلفة، وبصور متعددة في أوروبا. بعض تلك النصوص – ويتعلق الأمر فيه بعشرات آلاف المخطوطات العربية – كان في جملة ما غنمته الجيوش الغازية للحواضر العربية في الأندلس في حقبة ممتدة بين سقوط طليطلة في أيدي الإسبان، في نهاية القرن الحادي عشر للميلاد، وسقوط آخر الممالك العربية (غرناطة)، في نهاية القرن الخامس عشر للميلاد. ولعله يكون من أقدم ما وصل مكتبات أوروبا من مصادر عربية إسلامية منهوبة من مَواطنها. وقد استُـقْدِم بعضٌ ثان (عشرات آلاف المخطوطات) من البلاد العربية الإسلامية من طريق شبكات من التجار – الرسميين والخواص – تخصصت في شراء المكتبات الخاصة للأسر العلمية، بما تحويه من مخطوطات. وقد كان في عداد من اقتنوها مستشرقون زودوا بها مكتبات أوروبا، بما فيها مكتبات جامعاتها. وتواصلت عمليات التنقيب والاقتناء طوال الحقبة الاستعمارية في البلاد العربية والإسلامية، فلم يقتصر على المخطوطات، بل طالت الآثار والتحف التي نُهِبت ووجدت طريقها إلى متاحف أوروبا الكبرى من طريق وسطاء أوروبيين ومحليين كانوا – على الأغلب – مجندين في شبكات تهريب للنفائس مرتبطة، مباشرة، بتلك المتاحف أو بوزارات الثقافة والآثار أو بمتاجر كبرى للتحف…

غير أن تنقيبا ثانيا كان على المستشرقين أن يخوضوا فيه بأنفسهم لاكتشاف تلك الكنوز الكبرى التي ظلت في مهاجعها (في المكتبات الأوروبية) أشبه ما تكون بالدفائن. وليس هذا من زوائد القول، بل هو إلى دقة الوصف أقرب؛ ذلك أن اصطفاف مخطوطات في ربائـد الخزانات والمكتبات، من غير أن يعلم بوجودها القراء، هو مما يجعلها في حكم الدفائن. وعليه، فهي تحتاج إلى من يعيد اكتشافها؛ أي إلى من يقرأها، ويعرف قيمتها، ويبحث عن التعريف بها في كتب تاريخ الفكر لعنونتها وإثبات مؤلِّفِها (إنْ لم يُثْبَت عنوانُها ولا اسمُ مؤلِّفها في النسخة المخطوطة). وهذا عمل شاق لا يقوم به إلا العلماء. وكثيرا ما كان مستشرقون هم أنفسُهم من وضعوا فهارس أقسام المخطوطات العربية الإسلامية في المكتبات الأوروبية.

ولا ينتهي عمل المستشرقين هنا، بل يشد أكثرهم الرحال إلى بلدان الشرق العربي الإسلامي، وإلى مكتباته الكبرى – في إستامبول والقاهرة ودمشق وبغداد وطهران، وفاس، والقيروان- للبحث عن مخطوطات أخرى لم تجد طريقها إلى أوروبا، و – في الوقت عينه – للعثور على نسخ أخرى من المخطوطات التي في المكتبات الأوروبية: قصد المضاهاة أو التنقيح أو التصويب أو الاستكمال، ونسخها أو تصويرها بأجهزة التصوير التي كانت متاحة قبل قرن ويزيد. وهذا، أيضا، عمل تنقيبي شاق يوشك على أن يكون على شاكلة التنقيب عن المعادن النفيسة. بهذه الطرائق من التنقيب عن النصوص أمكن المستشرقين جمع عشرات الآلاف من المصادر العربية الإسلامية التي ظلت، لقرون، في حكم المجهولة أو المحجوبة. وكما استفاد الدارسون الغربيون منها، كذلك استفاد العرب والمسلمون؛ هؤلاء الذين أتيح لهم أن يتعرفوا إلى كنوز تراثهم وحضارتهم من طريق هذه الورشة الهائلة من التنقيب الغربي عن النصوص.

عبد الإله بلقزيز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى