شوف تشوف

الرأي

المساواة والعدالة

حين يقول كارل ماركس إنه تأثر بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية (هيغل خاصة)، والاقتصاد السياسي الإنجليزي (آدم سميث خاصة)، ثم الاشتراكية الطوباوية الفرنسية (سان سيمون والثورة الفرنسية خاصة)، وإن هذه لم تكن مصادر تفكيره فحسب، بل الأطر المرجعية لفكرة الاشتراكية عنده، فهو يقصد أن موارد تفكيره، ومواد الفكرة الاشتراكية في ذلك التفكير هي التالية: ديالكتيك هيغل وجدلية العبد والسيد عنده؛ ومفاهيم الثروة والإنتاج والسلعة والسوق والرأسمال… عند سميث وريكاردو، وسيطرة الدولة على الإنتاج عند سان سيمون، ثم مبدأ المساواة في الثورة الفرنسية.

مقالات ذات صلة

من الواضح أن الأمر يتعلق في هذه بمصادر فكر، أي بموارد هي في حكم المواد الأولية الخام القابلة للتصنيع في منظومة فكر جديد تعيد بناء معناها، وتعيد صوغ مفاهيمها. وذلك، بالذات، عين ما فعله ماركس حين أسس لنفسه إشكاليته الخاصة منفصلا عن الهيغيلية والفويرباخية والسان سيمونية والفكر الاقتصادي الإنجليزي، ومقيما معها مسافة نقدية. أما إشكاليته الجديدة، نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، فهي الاشتراكية بحسبانها، عنده، الصيغة الحديثة لتطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق الاجتماعية والحيف والتهميش من النظام الاجتماعي القائم.

ليس يعنينا، هنا، أن نتناول مصادر تفكيره هذه، ولا نظريته في العدالة الاجتماعية (الاشتراكية)، وإنما صلة هذه بمبدأ المساواة الذي أقرته الثورة الفرنسية وكان له كبير الأثر في تفكيره وإشكاليته. قلنا إن مصادر تفكيره موارد قابلة للتصنيع. وهكذا الشأن في فكرة المساواة عنده. إنه يقبلها ويدافع عنها، بوصفها تحقيقا لإنصاف مجتمعي ولكن، فقط، بما هي لحظة انتقالية غير كافية، تحتاج إلى أن تُسْتَكْمَل، أي أن تشمل أبعادا أخرى من الحياة الاجتماعية لا تغطيها أحكامها (أي أحكام المساواة). وليست تلك الأبعاد الأخرى سوى الأبعاد الاجتماعية، أو الحقوق الاجتماعية، التي لا يلحظها مبدأ المساواة، والتي لا يُشْبعها غير مبدأ العدالة الاجتماعية أو الاشتراكية في اصطلاحه.

والحق أن هذه الملاحظة النقدية عما في المساواة من قصور في إجابة الحقوق الاجتماعية ليست تجذيفا، ولا ابتخاسا للمساواة؛ ذلك أن المجال الذي يستغرقه مفهومها هو المجال القانوني- السياسي دون سواه. يقضي المبدأ هذا بالاعتراف لأفراد المجتمع جميعهم بالحقوق السياسية عينها التي يضمنها لهم القانون، متعاليا عن أي تمييز بينهم على صعيد الدين أو العرق أو المستوى الاجتماعي. غير أنه في مقابل هذا التوزيع القانوني العادل للحقوق السياسية، يعيش المواطنون المتكافئون في السياسة أشكالا من التفاوت الصارخ في أوضاعهم الاجتماعية؛ فعلاقاتهم بالثروة والملكية ووسائل الإنتاج ليست واحدة، ولا تشبه علاقاتهم بالسلطة وبحقوقهم العامة فيها. ولا يملك مبدأ المساواة شيئا أمام هذا التفاوت الاجتماعي، لأن أحكامه لا تتعلق بالاجتماعي- الاقتصادي، بل بالسياسي- القانوني حصرا. من هنا فإن استكمال ما تؤمنه المساواة من حقوق للمواطنين لا يكون إلا من طريق العدالة الاجتماعية، أي من طريق التوزيع العادل للثورة وكفالة الحقوق الاجتماعية للمنتجين وطبقات الشعب.

ثمة وجه ثان للفارق بين المساواة والعدالة (الاشتراكية)، عند ماركس ومفكري الاشتراكية بعده. تتعلق المساواة بالأفراد، فيما تلحظ العدالة حقوق الفئات والطبقات الاجتماعية. أحكام المساواة تخاطب حقوق المواطنين بما هم أفراد ينتمون إلى الدولة ويرتبطون بها برابطة الولاء، ويدفعون الضرائب، ويحترمون قوانينها. ليس من مساواة بين فئات وطبقات أمام القانون؛ لأن القانون يتوجه بأحكامه إلى ذوات مفردة؛ سواء في ترتيب ما لهم على الدولة والمجتمع من حقوق، أو في ما خص الأحكام العقابية التي تنزل بالأفراد دون فئاتهم وطبقاتهم، التي ينتمون إليها، حين يخالفون القوانين القائمة.

تتناول العدالة، في المقابل، لا حقوق الأفراد فحسب، بل حقوق الجماعات الاجتماعية أيضا. إن التفاوت في الأوضاع الاجتماعية الذي يبدو بين الأفراد، مثلا، ليس في حقيقة أمره تفاوتا بينهم، إلا من حيث هم ينتمون إلى فئات اجتماعية متفاوتة من حيث علاقاتها بالملكية وبوسائل الإنتاج، وتبعا لموقفها داخل علاقات الإنتاج الاجتماعية. إذا كان القانون يصنفهم كأفراد، فإن الإنتاج يوزعهم كطبقات وفئات. لذلك إذا كانت العدالة ستنصف هؤلاء الأفراد في حقوقهم الاجتماعية – الاقتصادية، فلأنها ستنصف طبقاتهم وفئاتهم التي إليها ينتمون، وبموقعها في عملية الإنتاج يتحددون.

لم يأت مبدأ العدالة نقضا لمبدأ المساواة، بل أتى تصحيحا لما يعتوره من قصور واستكمالا له بتغطية أبعاد أخرى مغيبة. لكن هذه العلاقة التكاملية بين المبدأين لم تعثر، بعد، على تعبيرها النظري الفلسفي، ولا على تطبيقها المادي السياسي في التاريخ المعاصر!

 

نافذة:

استكمال ما تؤمنه المساواة من حقوق للمواطنين لا يكون إلا من طريق العدالة الاجتماعية أي من طريق التوزيع العادل للثورة وكفالة الحقوق الاجتماعية للمنتجين وطبقات الشعب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى