بدأ، منذ عقود قليلة، يتسع نطاق استخدام مصطلح «الدول الفاشلة»، لتعيين دول من العالم بعينها لم تعد قادرة على القيام بوظائفها كدول. ومع أن هذا الاصطلاح فضفاض إلى درجة أن عبارة الفشل قد تُحْمَل على معان عدة، ربما تتخطى حدود ما يُقْصَد به عند من يستخدمون الاصطلاح، إلا أن الوصف هذا بات متداولا بالسياسة الدولية حتى أن العديد من المؤسسات الدولية أخذت به في علاقاتها بدول العالم، وشرعت ترتب عليه سياسات وعلاقات خاصة بالدول، التي تصنف في خانة «الدول الفاشلة».
المعايير التي يُحْكم بها على دولة ما بأنها فاشلة عديدة، ولكن يمكن اعتماد ثلاثة منها هي الأكثر شيوعا:
أولها عدم قدرتها على بسط سلطتها على مناطقها كافة، أو خروج بعضها من سلطانها الأمني، نتيجة نشوء حال من الأمن الأهلي فيها، أو نتيجة سيطرة ميليشيات عليها. وفي الحالات هذه جميعها، وغيرها، تفقد الدولة احتكارها الحصري للسلطة وللعنف المشروع لتعجز عن الوفاء بأول وظيفة من وظائفها، وهي فرض الأمن والقانون وحماية الأمن الاجتماعي لمواطنيها، الأمر الذي تتولد منه حال من الفوضى والعدوان المتبادل وانتصاب سلطات أهلية غير مشروعة أي، عمليا، بداية التفكيك التدريجي للدولة.
وثانيها تهالك سلطة الدولة ومؤسساتها نتيجة ضعفها الحاد، واستفحال حال التراجع بأدائها إلى الدرجة التي لا تعود قادرة فيها على اتخاذ قرارات رسمية، ولا قادرة على إنفاذ ما قد يُتخذ منها. وهي حال أقرب ما تكون إلى وضعية الفراغ في السلطة، حيث يستوي فيها وجودها وعدم وجودها في أعين رعاياها. وغالبا ما تنشأ هذه الحال من أزمات سياسية تستعصي على حلول، فتنعكس على عمل سلطة الدولة.
وثالثها فشلها في تقديم الخدمات الضرورية لانتظام الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع؛ من تشييد البنى التحتية، وتوفير التعليم والخِدْمات الصحية، والماء والكهرباء، والتأمين الاجتماعي، والسلع الأساسية، ومؤسسات تمويل المشاريع، والشغل… ناهيك بالتشريعات التي لا غنى عنها لتنظيم الاجتماع الوطني.
هذا هو الحد الأدنى لعمل أي دولة. إن عجزت عنه، فقدت مبرر وجودها أو تحولت إلى مجرد سلطة غير سيادية في جملة سلطات أخرى تزاحمها على السيطرة. وعندها، لا تعود المشكلة منحصرة داخل هذه الدولة الفاشلة المزدحمة بالمشكلات والأزمات والحروب الداخلية، بل قد تمتد آثار ذلك إلى محيطها من الدول المجاورة. كانت هذه حالة بلدان عدة، منذ منتصف العقد الأول من هذا القرن، مثل الصومال، والكونغو الديمقراطية، وأفغانستان، ورواندا، وبوروندي، والسودان، وبنغلاديش، وتشاد، والعراق بعد الاحتلال إلخ. وثبت، كما في حالات أفغانستان والصومال والعراق وبوروندي ورواندا، كيف انتقلت شرارة النزاعات بها إلى بلدان الجوار لتتوسع معها رقعة النزاعات الإقليمية.
عديدة هي الأسباب التي تقود دولا بعينها إلى الفشل: داخلية وخارجية، وغالبا ما يستحيل الخارجي فيها إلى مشكلة داخلية:
قد يكون الفساد السياسي والمالي وسوء التدبير، والمحسوبية والاستزلام في توزيع الوظائف… سببا في التخبط وإنتاج المشكلات والأزمات وإساءة استخدام الأموال العامة، وهدر الثروة… و، بالتالي، في إيصال الدولة إلى عتبة الفشل العام. وذلك، على الأغلب، ما يقع بالدول التي تعاني نقصا حادا بالنظام المؤسسي، وتنعدم فيها الرقابة والمحاسبة الدستوريان لانعدام حياة سياسية تمثيلية فيها، واجتماع سلطات الدولة في مركز واحد.
وقد يكون النزاع على السلطة بين العصبيات الأهلية (قبائل، عشائر، طوائف، أقوام…)، والاختلاف في حصص تقاسُمها وراء الذهاب بالدولة إلى لحظة الفشل. وغالبا ما يقترن بذلك النزاع مَيْـلُ كل فريق لتكوين مؤسساته الأهلية الخاصة، بما فيها الميليشياوية، وتوسل الاستقواء بها في صراعه مع خصومه؛ الذي ينتهي، غالبا، إلى حرب أهلية تستنزف البلاد والاقتصاد وتُحْدِث بالمجتمع جراحا غائرة.
ثم قد تكون أسباب الفشل موضوعية خارج كل إرادة؛ من قبيل فقر الدولة إلى أبسط الموارد المادية التي تدير بها أمور البلد، أو تنامي الخلل بين بيئة النمو الضعيفة والتسارع المتدرج في معدلات النمو الديموغرافي، الأمر الذي تتولد منه ظواهر الفقر والتهميش والبطالة والعجز التام عن إجابة أبسط الحاجات. وما أكثر دول العالم الفقيرة التي تعاني هذا النوع من المشكلات، التي لا تقوى على جبْهها من دون عون خارجي.
لكن الذي لا يقع الانتباه إليه أن الكثير من هذه الدول دُفِعَت دفعا إلى هذا الفشل بفعل عوامل خارجية مثل الحروب عليها (أفغانستان والعراق والصومال)، أو الحصار الاقتصادي والعقوبات، وهي – بالمعنى هذا – سيقت للفشل ولم تفشل بالتـلقاء. هذه واحدة؛ الثانية أن دولا أخرى من التي لا تقوى بمواردها الذاتية على أن تعيش وتؤدي وظائفها على الوجه المفترض كان يمكن «المجتمع الدولي» ومؤسساته إنقاذها من المصير البائس برفد من المساعدات، لو كان ثمة برنامج إنساني لمساعدة الشعوب الفقيرة على التغلب على فاقتها. لكن ذلك لا يقع في الغالب إلا جزئيا من قِبل بعض برامج الأمم المتحدة. هكذا يتحلل العالم من مسؤوليته تجاه ذلك الفشل ليلقيه على عاتق دول لا حول لها!
نافذة:
قد يكون الفساد السياسي والمالي وسوء التدبير والمحسوبية والاستزلام في توزيع الوظائف سببا في التخبط وإنتاج المشكلات والأزمات وإساءة استخدام الأموال العامة