المزايدة على الوطن
في اليوم الذي كان فيه الملك يرافع بأديس أبيبا دفاعا عن مكانة المغرب الطبيعية داخل منظمة الاتحاد الإفريقي، متوجا عملا ملكيا دؤوبا وشاقا شمل زيارة 25 بلدا إفريقيا، وهو ما لم يقم به أي رئيس دولة في العالم، كانت جريدة العلم، التي حولها “البقيقيلي” من لسان ناطق باسم حزب الاستقلال أيام كان الحزب حزبا، إلى لسان طويل ناطق باسم شباط وأبنائه وأتباعه، تنشر بكل وقاحة خارطة المغرب بدون صحرائه.
ولو أن هذا الفعل الشنيع جاء معزولا لحسبناه على خطأ مطبعي ولكان الاعتذار كافيا لتجاوز هذا الأمر، مثلما يحدث في كل الجرائد، لكن هذه الفعلة جاءت في سياق مزايدات خطيرة لـ”هبيل فاس” بدأت بإطلاقه لتصريح خطير في حق سيادة واستقلال دولة موريتانيا عندما اعتبرها أرضا مغربية، مما جعل الملك يتصل شخصيا بالرئيس الموريتاني لنزع فتيل الأزمة.
بعد ذلك سيقوم هبيل فاس بسحب نوابه من البرلمان خلال جلسة التصويت على الرئيس، وهو الطلب الذي جاء من الملك عندما حث بنكيران على تسريع تشكيل هياكل البرلمان للتصويت على القانون الأساسي لمنظمة المؤتمر الإفريقي لتسهيل عودة المغرب إليه.
ثم بعد ذلك صدرت افتتاحية بجريدة العلم تحذر من التصويت على هذا القانون، الذي من أجله طالب الملك بنكيران بتشكيل هياكل البرلمان، لأنه يعني الاعتراف حسب شباط بالبوليساريو والتفريط في الحدود الحقة للمغرب.
واليوم تختمها جريدة العلم بنشر خريطة مبتورة للمغرب تفصله عن صحرائه، في تصعيد خطير لمسلسل الابتزاز الذي وصل حد المس بالوحدة الترابية للمملكة.
وقد سمعنا في نشرة أخبار القناة الأولى ليلة الثلاثاء كيف قال مستشار الملك إن تصريحات شباط العدائية حول موريتانيا خلقت متاعب دبلوماسية للمغرب واستغلها خصوم المغرب للتشويش على عودته لمنظمة الاتحاد الإفريقي، وأن الوفود الإفريقية بلغت الوفد المغربي بذلك. مما يستفاد معه أن شباط متهم بالمس بالمصالح العليا للوطن وأنه يستحق أن يحاكم على هذه الجريمة، وعلى جرائم أخرى كثيرة ارتكبها في حق مدينة فاس عندما كان يسطو على عمادتها بالمال وتوظيف “الكرابة” الذين كانوا يوزعون الخمور مجانا على بلطجيته.
إن الأمر لم يعد مجرد تهديد وابتزاز يطلقه شباط في حق وزير الداخلية مخيرا الدولة بين مساعدته للحصول على عمادة فاس أو إحراق المدينة، بل إن الأمر اليوم وصل حد تهديد المصالح العليا للوطن من داخل مقر الحزب الذي سماه ذات يوم مقر العزيزية تيمنا بعزيزية القذافي التي دكتها طائرات الرافال قبل أن ينتهي القذافي مطعونا بالسكاكين فوق بيكوب.
إن شباط اليوم أحرق كل مراكبه، وأصبح في مواجهة اتهامات سياسية ومالية خطيرة، وحتى زواج المتعة بين شباط وبنكيران لم يدم طويلا، وسرعان ما عاد “هبيل فاس” إلى عادته القديمة، وقلب الطاولة على بنكيران، بعد واقعة التصويت بالورقة البيضاء على رئيس مجلس النواب، واتهامه بإبرام صفقة سياسية للنفاذ بجلده، بعدما تخلى عنه بنكيران في منتصف طريق المشاورات المتعلقة بتشكيل الحكومة المقبلة.
موقف شباط ليس بجديد أو غريب، لأن الرجل معروف بإطلاق الكلام على عواهنه، كما أن قرار تخلي بنكيران عن شباط كان متوقعا، بعدما “تشبط” به في بداية المفاوضات، لممارسة الضغط والابتزاز ليس إلا، وكتبت قبل شهرين أن بنكيران يبرر تشبثه بحزب الاستقلال الذي كان يصف أمينه العام بـ”هبيل فاس”، بأنه أعطى الكلمة لشيوخ الحزب، ومنهم الدويري وبوستة، الذين ضمنوا له شباط، ولو كان فعلا هم بنكيران هو الوفاء بالكلمة التي أعطى لحزب الاستقلال لكان أوفى أولا بالكلمة التي أعطاها للشعب في حملته الانتخابية سنة 2011 والتي تنكر لها على مدى خمس سنوات التي قضاها جالسا فوق كرسي رئاسة الحكومة، ويقول إنه يتشبث بالكلمة التي أعطاها لشباط، وهل شباط أكثر من الشعب ؟
لقد نسي بنكيران أن شباط الذي خرج مهزوما من مدينة فاس، بعد الانتخابات الجماعية الأخيرة، سبق أن رفع دعوى قضائية ضد لحسن الداودي، الذي كان يشغل منصب نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، سعد الدين العثماني، بعدما اتهمه بقيادة مليشيات وعصابات بمدينة فاس، كما قدم الحزب طلبا إلى مسؤولي ولاية الأمن من أجل توفير الحماية الأمنية اللازمة للوفد البرلماني الذي قام بزيارة إلى مجموعة من أحياء مدينة فاس سنة 2008، على هامش أيام الأبواب المفتوحة التي نظمها الفريق البرلماني، وذلك بعد هجوم بلطجية شباط على الوفد البرلماني لحزب العدالة والتنمية يتكون من 14 نائبا برلمانيا أثناء قيامه بزيارة إلى حي التاج للوقوف على بعض اختلالات إعادة إسكان قاطني الدور المهددة بالانهيار بالمدينة العتيقة، وكان الداودي قد صرح بأن من وصفهم بالميليشيات التابعة لشباط قد اعترضوا البرلمانيين، وطلب من السلطات التدخل من أجل وضع حد للمليشيات التي تريد أن تحول فاس العلمية إلى شاكلة بعض دول أمريكا اللاتينية، وخصوصا كولومبيا التي تعرف بالاقتتال، ووصف شباط بأنه “زعيم عصابة”، كما صرح الحبيب الشوباني الذي كان يترأس الفريق البرلماني لحزبه، بأن هذه العصابات أصبحت تنوب عن الدولة في تدبير الشأن العام المحلي وأصبحت تقيد حرية المواطنين في المدينة، كما وجه الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، رسالة إلى عباس الفاسي الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، يذكره بالاعتداء الذي تعرض له عبد الإله بن كيران والمقرئ الإدريسي أبوزيد ولحسن الداودي من طرف العصابات المحسوبة على شباط.
شباط بدوره قال في بنكيران ما لم يقله مالك في الخمر، فقد ربط كل مصائب الدنيا بأنها تأتي من بنكيران، واتهمه بتطبيق أجندة دولية لتنظيم الإخوان المسلمين، وتسهيل عملية التحاق الشباب المغاربة بجبهة النصرة السورية، بل إن شباط اتهم بنكيران بالانتماء إلى تنظيم “داعش” وجبهة النصرة بالعراق والشام وبالعمالة إلى المخابرات الإسرائيلية “الموساد”، وذهب إلى حد اتهام بنكيران بمبايعة البغدادي أمير “داعش”.
أما بنكيران فقد وصف شباط بـ”هبيل فاس”، وأن شباط “شخص يقول أي شيء، وليس لديه أي اعتبار وكلامه في المغرب لا يستمع له أحد”، وزاد بوصفه بـ”العبيط”، وأنه “يصدق كل ما يقال له، وخاصة أنه مؤهل ليكون رئيسا للحكومة”، واعتبر أقواله “مجرد سفالة”.
شباط معروف بمواقفه المزاجية والانفعالية، لذلك لا يصلح أن يكون زعيما لحزب سياسي، فمكانه الطبيعي كان هو البقاء في النقابة التي بنى من خلالها “مجده” السياسي، فالنقابي سلاحه وقوته يكمنان في الصراخ والمزايدات ورفع سقف المطالب وقلب الطاولة.
لذلك فعندما أمسك شباط بمفاصل الحزب أراد التصرف كنقابي، ووصلت به الوقاحة إلى المزايدة على الملك في قضية الوحدة الترابية، عندما انسحب من جلسة التصويت على انتخاب رئيس مجلس النواب، وحديثه عن مناطق ظل وتفاصيل يسكنها الشيطان في ملف انضمام المغرب للاتحاد الإفريقي.
إن السياسي يجب أن يتميز بالرزانة والحكمة وعدم التسرع في اتخاذ المواقف، لذلك أكبر خطأ ارتكبه شباط هو قيادته لحزب سياسي معروف بتاريخه ومواقفه، قادما إليه من العمل النقابي، ولذلك فقد بدأ يخطط للعودة إلى مكانه السابق بالنقابة تحسبا للإطاحة به من الأمانة العامة للحزب في مؤتمره المقبل.
فالرجل لم يفهم أن “ساعتو سالات”، وأن أفضل شيء يمكن أن يقوم به هو أن “يغبر زلافتو”، لكي ترتاح منه البلاد ويرتاح منه العباد.