المرض الأمريكي
بقلم: خالص جلبي
لنتأمل هذه الظاهرة خارج سطوع الأورو وكسوف الدولار وبريق الذهب وجنون البورصات، بوضع سؤال محوري (عقلاني) بعيدا عن توترات الأسواق المالية وانفعالاتها اللاعقلانية، هل وضع الولايات المتحدة مقلق حقا كما يقول الاقتصاديون؟ ثم ماذا يعني الاقتصاد بالنسبة إلى الوضع الثقافي للأمة؟ وهل يمكن قياس الوضع الحضاري من خلال المشعر الاقتصادي؟ بل ما هو المال في الأصل، وكيف نفهمه؟
في الواقع ومن خلال تحليل جهات شتى، نرى أنها كلها تصب في هذا المعنى نفسه يزيد أو ينقص، من شهادات المؤرخين أو السياسيين فضلا عن الاقتصاديين، وبين أيدينا في هذا المقالة تحليل مؤرخ أمريكي (باول كينيدي) ومفكر فرنسي (جاك أتالي) وسياسي ياباني (شينتارو إيشيهارا)، من ثلاث قارات متباعدة، وثلاثة ميادين متباينة، في محاولة تبين الأسباب العميقة للانهيار الأمريكي أو ليل الظلام الذي بدأ يلف، والانحسار الذي بدأ يضرب بكل قوة في مفاصل المجتمع الأمريكي. خلافا للطرح الذي تقدم به في ما سبق (فرانسيس فوكوياما)، الأمريكي ذو الأصل الياباني الذي رأى النموذج الأمريكي أنه نهاية التاريخ والنموذج الأخير للإنسان، أو الذي صرح به لمندوب وكالة أورينت برس: (نحن الأقوى والأعظم)
لنبدأ بشهادة الأمريكي المؤرخ (باول كينيدي) في مؤلفه الهام «صعود وسقوط القوى العظمى»؛ فالمؤلف يرى بلده في متحارجة لا يحسد عليها بين (المدفع والزبدة والاستثمار)، وهو يعني بكلماته هذه الخيار الصعب بين الدفاع والاستهلاك والاستثمار: (ليست هناك إجابات سهلة في التعامل مع التوتر الثلاثي، بين الدفاع والاستهلاك والاستثمار القومي)، ثم يخلص إلى نتيجة مفادها أن الولايات المتحدة قد أصيبت بالترهل الامبراطوري، وأن نسق التاريخ سينطبق على بلده كما انطبق على روما وبابل (وهكذا فإن الإجابة عن السؤال المطروح عن إمكانية احتفاظ الولايات المتحدة بوضعها الحالي؟ هي: لا). (فإذا كان هذا هو حقا نسق التاريخ، فإن المرء يمكن أن يقول ما قاله برنارد شو: روما سقطت وبابل سقطت، وسيأتي الدور على غيرهما).
وفي ما يتعلق بالديون فإنه يورد الإحصائيات نفسها لفيجي وسوانسون المقلقة (إن استمرار هذه الاتجاهات سيدفع بالدين القومي الأمريكي إلى حوالي 13 ألف مليار دولار عام 2000 (14 ضعفا عما كان سابقا عن عام 1980)، وبفوائد هذا الدين إلى 1500 مليار دولار. ويخلص في النهاية إلى أن الولايات المتحدة ستنكمش إلى حجمها الطبيعي فتمتلك 16 في المائة من الثروة والقوة العالمية، في حين أنها تمتلك اليوم قرابة 40 في المائة. أما المفكر الفرنسي (جاك أتالي) فإنه يقرر بشكل قطعي بعنوان مستقل: هبوط الولايات المتحدة الأمريكية بأنها (متحدة الاتجاه ولا يمكن نكرانها)، وبأن (الولايات المتحدة لم تعد تصدر عمليا من أراضيها لا سيارات ولا أجهزة تلفزيون ولا سلعا تجهيزية، بالرغم مــــــن جهودها المتكررة لإعطاء الاقتصاد الأمريكي قدرة تنافسية مصطنعة عن طريق التخفيضات المتكررة للدولار). وعندما يأتي أتالي لتفسير هذا الهبوط، فإنه يمسك بالمفتاح (هذه التطورات كلها تكمن جذورها في تحولات ثقافية عميقة، فالصورة التي يكونها الشعب الأمريكي عن نفسه تتمركز حول إبراز حنيني لمجده الذاتي، إن الاهتمام المفرط بالحاضر السريع والانصراف عن المستقبل الواسع لدى أمة أخذت تنطوي على ذاتها، بالرغم من ماضيها المتميز بالنزعة العالمية، يفسر هذه الظاهرة أحسن من أي شرح اقتصادي). ويرد على من يزعم بأن العجز الأمريكي ناتج عن سياسة الحماية اليابانية، وتخلف شبكات التوزيع فيقول: (إن سياسة الحماية اليابانية تزيد بالتأكيد من العجز الأمريكي، ولكنها لا تستطيع أن تخلقه، فليس من حماية جمركية قادرة على الثبات طويلا أمام منافسة المنتجات). وفي الوقت نفسه فإن أتالي يفسر صعود اليابان مرة أخرى بخلفية ثقافية: (إن أسباب هذا الصعود الياباني المدهش هي في جوهرها ثقافية أيضا)، ثم يلخص بعض هذه الشروط (وهكذا تتجمع لليابان جميع الشروط للقيام بدور القلب: رؤية بعيدة المدى لمصالحها، وطاقة على العمل، وإرادة تدعم مستوى الأداء، وسيطرة على تقنيات الاتصال الحديثة، وأهلية لاختراع وإنتاج السلع الجديدة ذات الاستهلاك الجماهيري، وإرادة التعلم، وديناميكية موجهة إلى الخارج، وبدون أن تعلــن عـــن ذلـــــــك أو تجعل غيرها يعلنه تتحول اليابان إلى مركز القطب المسيطر في مجال المحيط الهادي). ومصطلح القلب الذي يستعمله يفسره في مكان آخر، عندما كان يتحول القلب النابض التجاري العالمي من مكان إلى آخر، بدءا من القرن 13 حتى القرن العشرين، حيث مر بثمانية مراكز ضخمة، بدءا من نابولي وجنوة في إيطاليا، ومرورا بأنفرس وأمستردام في هولندا ثم لندن، وانتهاء بنيويورك، وهو الآن يزحف ليتشكل في طوكيو وربما بكين.
وأما السياسي الياباني (شينتارو إيشيهارا)، فإنه يصرح بأمور في غاية الأهمية في كتابه «اليابان تقول لأمريكا .. لا»، فهو يكشف النقاب عن انتهاء الحرب الباردة بسبب ياباني! فهو يقول إن دقة التصويب تعتمد الكمبيوترات المتقدمة، التي تستخدم الرقائق الحاسبة التي هي إنتاج ياباني، وهكذا تتدخل اليابان في تفوق أي فريق نووي، بقدر ما تقدم له من الشراح الكمبيوترية.