المدينة الغول قصة تحول البيضاء لأكبر تجمع سكاني في المغرب
يونس جنوحي
«ربما تكون الدار البيضاء أفضل مدينة في شمال إفريقيا، وأكبرها مساحة، بعدد سكان يتخطى 700 ألف نسمة، ويستمر في التزايد.
إنها تستقبل أكثر من 75 في المائة من مجموع الصناعة المغربية، وتحتل ثلث المساحة الحضرية للبلاد. وكما يمكن تخيله، فإن المدينة لم تتمكن من الإفلات من المشاكل التي كانت تنمو وقتها كالفطر».
الكلام هنا للكاتب البريطاني برنارد نيومان، هذا الأخير تنبأ سنة 1952 بأن يصبح للدار البيضاء مستقبل اقتصادي كبير. تجول هذا الكاتب، الذي يُقَدِّرُهُ البريطانيون، بين الإدارات والفنادق الفخمة في «كازا بلانكا» وبين أحياء دور الصفيح الفقيرة التي تفتقر إلى أبسط شروط العيش، وأدرك أن الدار البيضاء منذ ذلك التاريخ كانت قنبلة ديموغرافية على وشك أن تنفجر.
++++++++++++++++++++++++++++++++
قصة مجد عاشته «أنفا» وكسرته الحرب الأهلية قبل 7 قرون
في يوم الاثنين 7 غشت سنة 1907، احتل الجيش الفرنسي الدار البيضاء وطوقها، وسيطر على نفوذها الترابي الممتد في اتجاه القبائل، التي ثارت في وجه الأوروبيين، الذين اختاروا الإقامة في المدينة.
وإلى اليوم، لا يزال الغموض يلف تفاصيل العملية العسكرية المثيرة للجدل، والتي تابعتها الدول الأوروبية بقلق كبير، خصوصا وأن الدار البيضاء كانت نقطة واعدة في مخطط السيطرة على شمال إفريقيا.
الدار البيضاء كانت مدينة ألفت الانقسام عبر تاريخها، فقد تعرضت سنة 1372 ميلادية لهجوم لضمها إلى ما كان يسمى وقتها «مملكة فاس»، التي كان يسيطر عليها المرينيون في إطار الصراع بين الإخوة.
وفي ظل الحرب الأهلية التي عاشها المغرب في ذلك الوقت، بقيت «أنفا» نقطة صراع بين الإخوة المتناحرين، إلى أن سقطت الدولة المرينية.
كانت «أنفا» أيضا مسرحا للحرب البرتغالية ضد المغرب، قبل تاريخ صراع المرينيين، ثم شهدت محاولات توغل الإسبان، وكان المرسى الصغير للمدينة، والذي لم يكن يُقارَن مع «مازاگان»، مسرحا لعدد من المناوشات بين القبائل المحيطة بالدار البيضاء والقوات الأجنبية.
لكن المدينة الفعلية لم تتأسس إلا سنة 1770 على يد السلطان محمد بن عبد الله. وكان سكان المدينة وقتها يفتخرون أن السلطان الذي اهتم بهم هو حفيد مباشر للسلطان المولى إسماعيل، الذي أسس مكناس وبنى بها قصره العظيم.
ويقول المؤرخون إن بناء الإسبان لبعض البنايات داخل المدينة، سيما تلك التي كانت قريبة من المكان الحالي للميناء، جعل اسم «كازابلانكا» يشيع مبكرا وتُسمى به المدينة في أوساط الأوروبيين.
المؤرخون يربطون بين اتفاق مغربي مع بريطانيا بخصوص تصدير الصوف المغربي، بداية القرن 19، وبين ازدهار الحياة الاقتصادية في الدار البيضاء. فبموجب هذا الاتفاق، جُمعت المواد الأولية من القبائل المحيطة بالدار البيضاء في اتجاه الجديدة ومراكش، وجرى تصدير الأطنان منها على امتداد السنوات صوب المملكة المتحدة، وهو ما جعل اقتصاد «كازا بلانكا» يقفز بشكل صاروخي وتتجاوز المدن الداخلية التي يعود نشاطها الاقتصادي إلى قرون خلت.
لم تعش الدار البيضاء انتكاستها الكبرى إلا في سنة 1907، بعد القصف العسكري الفرنسي الذي جاء ردا على ثورة القبائل المغربية المحيطة بالدار البيضاء، على عمليات هجرة الفرنسيين والإسبان واقتنائهم الأراضي وبنائهم للمنازل على الطراز الأوروبي وافتتاحهم للمحلات التجارية. رأى رجال القبائل المتعصبين أن استقرار الأوروبيين في المدينة يهدد هويتها الإسلامية ويشكل خطرا على أرضهم، خصوصا مع وصول أخبار احتلال فرنسا للجزائر منذ 1830، فقرروا أن يثوروا في وجه الوجود الأوروبي بالمدينة. وكان الرد الفرنسي قاسيا لقمع التمرد المغربي، وقصفت المدينة كاملة، ليعاد بناؤها من جديد. وكانت سنة 1912 محطة تاريخية وُلدت فيها الدار البيضاء الحالية.
الكاريان.. نقطة قضت مضجع فرنسا وفجّرت «كازا» اليوم
عندما قررت السلطات تحويل منطقة «كاريان سنطرال»، التي أخليت من الأحياء العشوائية ودور الصفيح على مدى سنوات، إلى منتزه شاسع، فإنها بذلك تُزيل السواد عن أقدم نقطة عشوائية في تاريخ البلاد.
«كاريان سنطرال» تأسس بعد فرض الحماية الفرنسية على المغرب بسنوات. وهناك مؤرخون مغاربة وأجانب يربطون بين سياسة فرنسا في المغرب بعد 1920، وبين اتساع رقعة الكاريان، حيث إن هذا الحي الصفيحي تكون في البداية ليجمع الأسر المغربية النازحة من كل اتجاه، هربا من بطش فرنسا وسياستها الاستعمارية في القرى.
سيطرة المعمرين على أجود الأراضي الفلاحية، وسلب أراضي المغاربة، جعل آلاف الأسر تنزح سنويا إلى محيط الدار البيضاء، حيث يوجد الكاريان، بحثا عن فرص عمل في المدينة الكبيرة.. المدينة التي اختارتها فرنسا لكي تكون عاصمة للأنشطة الاقتصادية في البلاد.
لم تتوقف الهجرة القروية صوب «الكاريان»، سواء من قبائل الشاوية وعبدة أو حتى قبائل سوس. ليصبح المكان أكبر تجمع قبائلي في تاريخ المغرب، التقى فيه الأمازيغ بالعرب، ونزح إليه فلاحون وحرفيون من مختلف الطبقات، يجمع بينهم التذمر من سياسة فرنسا في المغرب.
هذا التجمع البشري سرعان ما أصبح واقعا يُزعج فرنسا منذ نهاية الأربعينيات، وهو ما تأكد في أحداث دجنبر 1952، عندما أصبح الكاريان مسرحا للأنشطة النقابية المغربية المناهضة لسياسة فرنسا في المغرب، وتحول إلى مشتل لميلاد الخلايا السرية للمقاومة المغربية، وعجز الفرنسيون حرفيا عن السيطرة عليه أمنيا.
من الجوانب المثيرة أيضا من تاريخ «كاريان سنطرال»، أنه ارتبط بميلاد المقاومة ضد الحماية الفرنسية، قبل نفي السلطان محمد بن يوسف في غشت 1953، وأيضا خلال مرحلة ما بين المنفى والاستقلال.
كان «كاريان سنطرال» نقطة أمنية سوداء بالنسبة إلى فرنسا، ليس على المستوى الأمني فقط، وإنما أيضا على المستوى العسكري. إذ كانت فرقة عسكرية تابعة للجيش الفرنسي قد تلقت تعليمات بشن هجوم ومباغتة بعض المنازل داخل أحد أكثر أحياء «الكاريان» معاداة للوجود الفرنسي في المغرب.
كان بعض الفدائيين موضوع بحث أمني، بخصوص ما أسماه المحضر «جرائم» خطيرة استهدفت حياة موظفين فرنسيين سامين، ومستثمرين زاروا المغرب في سنة 1955. واتضح لهم من خلال التحريات أن بعض الأسماء المطلوبة أمنيا، تختبئ في سلسلة من المنازل «القصديرية» داخل الكاريان.
كيف علمت فرنسا بمكان وجود هؤلاء الفدائيين أعضاء الخلايا السرية؟
السبب راجع إلى تمركز عدد من المخبرين داخل الكاريان، بالإضافة إلى اعتماد الأمن الفرنسي على شبكة مخبرين جدد، بعد اعتماد خطة أمنية جديدة، تقوم على إحصاء أنفاس سكان الكاريان وإعداد مراقبة لصيقة لكل المنازل و«البراريك». وهكذا كان المخبرون الجدد يقدمون كل يوم معلومات بشأن التحركات الليلية في عدد من المنازل، وكانت النتيجة أن بعض هؤلاء المخبرون كانوا أهدافا لعمليات نفذت ليلا أيضا، حسب ما جاء دائما في المحاضر، للرد على الخطوة الأمنية لفرنسا.
رغم ذلك، كُللت عدد من عمليات التجسس بالنجاح، فقد كان هامش الخطأ في ظل تلك الأجواء واردا وبقوة. وهكذا استطاعت شبكة من المخبرين الجدد، أن تنقل معلومات دقيقة عن تحركات بعض الشبان المنتمين سرا للخلايا السرية، واستطاع رجال البوليس الفرنسي إيقاف عمليات قبل وقوعها، عبر اعتقال المعنيين بالتنفيذ، ساعات فقط قبل ساعة الصفر.
بعد استقلال المغرب سنة 1956، صار «الكاريان» من النقاط السوداء التي خطط السلطان محمد بن يوسف لإنهاء معاناة سكانها، سيما وأن الأسر التي تقطن الكاريان، من الجيل الثاني، لم تكن تتوفر على أبسط شروط العيش.
الانفجار الديموغرافي الذي عرفته الدار البيضاء لكي تتحول إلى كازا «الغول» التي نعرفها اليوم، كان «كاريان سنطرال» مساهما كبيرا فيه، بحكم أنه كان أكبر مسرح للهجرة الداخلية في المغرب، على مدى عقود تحت الحماية الفرنسية، قبل أن تصبح الهجرة نحو الدار البيضاء مفتوحة على مناطق أخرى.
ازدياد أنشطة المعامل، وانتشار الأنشطة المعيشية البسيطة في الدار البيضاء، ساهم في تشجيع الأسر الهاربة من الجفاف والركود الاقتصادي الكبير، لكي تبدأ حياة جديدة في «كازا»، لتصبح المدينة أكبر تجمع سكاني في المغرب.
+++++++++++++++++++++++++++++++++
أشغال بناء الدار البيضاء قبل 1912 بعيون رحالة أمريكية
كاتبة مغمورة جدا في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، لم يكن لها اسم وازن في الساحة الأدبية ولا في عالم الكتابة. جاءت «آنا لاريفييرا» إلى الدار البيضاء سنة 1908 واستقرت بها إلى حدود سنة 1915، تاريخ عودتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكي تقرر هناك أن تُعرف بالمطبخ المغربي، وتؤلف كتابا «للجيب» يتحدث عن خصوصيات المطبخ المغربي، وطريقة تحضير بعض الأطباق التقليدية الشهيرة.
لكنها لم تكتف بنشر الوصفات وسحبها، بل ذكرت الطريقة التي تعرفت من خلالها على المغاربة في مدينة الدار البيضاء، التي وصلت إليها بحرا من الضفة الأخرى للعالم، ووصفت أجواء المدينة بعد القصف العسكري الفرنسي الشهير الذي دمرها سنة 1907، ونقلت أجواء إعادة البناء وفق المعمار الفرنسي.
جاء في هذه المذكرات التي تحمل عنوان My Moroccan Adventure، وننقل ترجمة حصرية لهذا المقطع: «ركبنا باخرة جديدة ومريحة هذه المرة في اتجاه مدينة طنجة. كانت التذكرة مجانية، وفي صباح يوم 8 شتنبر 1908 أيقظني صوت المنبه معلنا وصولنا إلى مرفأ طنجة، لكن توقفنا بها لم يدم إلا يوما واحدا، بالكاد تمشينا فيه قليلا في الأزقة لكي نتخلص من دوار البحر، وفي المساء انطلقنا من جديد إلى الدار البيضاء التي لم نصلها إلا عصر اليوم الموالي. كانت الباخرة تمضي مُحاذية لليابسة، وكنا نرى منظر الغابات من البحر إلى أن وصلنا إلى الدار البيضاء.
وجدتها مدينة بيضاء بالفعل، حيث إن أشغال البناء وتبييض الجدران كانت على قدم وساق. كانت هناك عمارات على الطراز الفرنسي وأخرى على الطراز الإسباني، وقد أحسست لوهلة وكأنني أتمشى في أرض أجدادي هناك في الضفة الأخرى.
قررت الاستقرار في أول فندق أجده أمامي، لكن راكبة فرنسية معي رفقة خطيبها، عرضوا عليّ أن أقضي أول ليلة لي في الدار البيضاء في شقتهم، التي كانت تطل مباشرة على المحيط، وطبعا قبلت الدعوة بدون تردد».
تقول «آنّا» إنها تعرفت على طباخة مغربية كانت تشتغل في شقة «الكوبل» الفرنسي، وأعدت لهم طعام العشاء، وكانت تلك المرة الأولى التي تتذوق فيها «آنّا» طعاما مغربيا، فوقعت في حب المطبخ المحلي على الفور.
بل إن هذه المذكرات أساسا كان السبب الأكبر وراء تأليفها هو التعريف بالمطبخ المغربي.
وفي مقطع آخر، تتطرق «آنّا» إلى الفترة التي كانت فيها أشغال بناء الدار البيضاء على الطراز الفرنسي، على قدم وساق:
«دعاني أحد هؤلاء المهندسين مرة إلى العشاء، عندما رآني أنزل درج الفندق في المساء. جاء إلي وتحدث معي بفرنسية أنيقة، وقلت له إنني أتحدث الإنجليزية فقط. فبدأ يتحدث معي بلكنة غريبة ومضحكة، لكنها تكفي للتواصل. وأخبرني منحنيا على طريقة الفرنسيين ولباقتهم المبالغ فيها:
«مدام.. اسمحي لي أن أعرفك بنفسي. أنا المهندس «جاك لابور»».
شكرته وانصرفت بعد أن حددنا موعدا.
عندما نزلت لتناول طعام العشاء معه، لاحظت أنه غير بذلته، وكان طوال الوقت يتحدث عن طموحه في بناء أعلى عمارة في الدار البيضاء، وأن يقيم عمارات على امتداد الميناء، لكي تكون مطلة على البحر، مع الحرص على تزيينها على الطراز الباريسي الفاخر وشكل الشرفات المميز عندهم. قلت له: ألا ترى أنكم تخططون لإنشاء فرنسا أخرى هنا؟
ابتسم وقال:
بل نريد أن نثبت للعالم أن فرنسا تمتد إلى كل مكان. وسوف ترين».
عندما شغلت «كازابلانكا» العالم واجتمع فيها رؤساء أقوى الدول
يتعلق الأمر بمؤتمر أنفا الذي عُقد في الدار البيضاء سنة 1943، ما بين أيام 14 و24 يناير من تلك السنة. كل صحف العالم، بدون أي مبالغة، خصصت صفحاتها الأولى لهذا الاجتماع الذي ضم كلا من السلطان محمد بن يوسف، والرئيس الأمريكي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل.
هذه القمة استمدت أهميتها من الظرف التاريخي الذي عُقدت فيه في عز الحرب العالمية الثانية.
راج اسم الدار البيضاء بقوة في كل وسائل الإعلام الدولية، من صحف مكتوبة إلى نشرات الراديو بكل لغات العالم. وحل مراسلون دوليون لتغطية الحدث. وقد ارتكب الألمان وقتها خطأ جسيما في ترجمة اسم مدينة «الدار البيضاء»، في تقاريرهم المخابراتية. إذ علموا بشأن القمة التي سوف تحتضنها المدينة أياما قبل انعقادها، وعند ترجمة كلمة «الدار»، استعمل الألمان مفهوم «المنزل»، فأصبحت الترجمة الألمانية للدار البيضاء تعني «البيت الأبيض»، وفهم الألمان أن الاجتماع سوف يُعقد في البيت الأبيض بواشنطن، قبل أن يُدركوا لاحقا أن الأمر يتعلق بمدينة الدار البيضاء.
عن أجواء هذه القمة التاريخية، نقل ابن الرئيس الأمريكي السابق «روزفلت»، في مذكراته عن حياة والده الرئيس، أجواء حضوره في مدينة الدار البيضاء ولقاءه بالسلطان، الذي حوّل «كازا بلانكا» إلى أيقونة عالمية. يقول:
««في هذه الليلة… كان السلطان ضيفنا. وحينما وصل كان محفوفا بابنه الفتى، وهو ولي العهد المنتظر يتبعهما الصدر الأعظم ورئيس التشريفات، وكلهم كانوا يرفلون في جلاليب بيضاء حريرية وفضفاضة… وحينما بدأ العشاء كان السلطان على يمين والدي وتشرشل على يساره. وأخذ والدي يتحدث إلى السلطان بحيوية حول ثراء المصادر الطبيعية للمغرب، والإمكانيات الواسعة للتنمية التي يمكن تحقيقها في هذا القطر. وكان هما الاثنان يشعران بالبهجة والحبور من هذا الحديث، وبما أنهما يتحدثان الفرنسية بسهولة، الشيء الذي لا يمكن أن نقوله عن تشرشل، فقد كان باستطاعتهما التعمق في مختلف القضايا: رفع مستوى العيش للسكان المغاربة، ومن أجل ذلك، ضرورة الحفاظ داخل البلاد على جزء مهم من هذه الثروات.
وصرح السلطان عن رغبته العميقة في أن يجد العون بمختلف أوجهه للقيام بالمجهودات الهادفة لتجهيز بلاده بالمؤسسات الصحية العصرية، وإتاحة فرص التعليم العام.
وهنا عبر والدي عن رأيه بكون تحقيق مثل هذا العمل ينبغي على السلطان أن لا يتيح الفرصة للمصالح الأجنبية، حتى لا تستطيع عن طريق نظام التنازلات حرمان بلاده من خيراتها.
وحاول تشرشل تغيير الموضوع، لكن السلطان أخذ من جديد بخيط المحادثات، واضعا السؤال لمعرفة العواقب التي ينبغي استخلاصها من نصيحة والدي في ما يرجع للحكومة الفرنسية المقبلة.
وبينما كان والدي يلعب بشوكته دون اكتراث، لاحظ أن الحالة ستتغير جذريا بعد الحرب، خاصة في ما يرجع للاستعمار.
(..) وأخذ تشرشل يتحرك بانفعال فوق كرسيه وعليه علامات الانزعاج، فألمح والدي هامسا بأن بالمستطاع أن يتم تكوين علماء ومهندسين بالمغرب، بفضل برنامج للتبادل الجامعي مع الولايات المتحدة مثلا، وكانت إشارة من السلطان تعني الموافقة، وحالت أصول «الإتيكيت» أن يسجل في اللحظة عناوين الجامعات ذات الاختصاص.
لقد كان عشاء ممتعا قضى فيه سائر الضيوف، باستثناء واحد فقط – تشرشل- ساعة شيقة جدا. وحينما غادرنا الموائد، أكد السلطان لوالدي بأنه ما أن تضع الحرب أوزارها بشكل نهائي، حتى يطلب مساعدة الولايات المتحدة لتوفير ظروف أفضل لمستقبل المغرب، وكانت عيناه تشعان فرحا. وقال: «بأنه عهد جديد لبلدي».
وخرج السلطان من قاعة الأكل يتبعه الوزير الأول البريطاني، وهو يعض على سيجارة بغطرسة..».
هكذا انطلقت ثورة المعامل لتجعل من «كازا» مدينة مليونية
في بداية خمسينيات القرن الماضي، كان الانفجار الصناعي في الدار البيضاء على أشده. جل المشاريع الفرنسية التي أطلقت في المدينة بعد 1920، كانت تجارب استثمار لأثرياء فرنسيين، قبل أن تنفتح المدينة بعد الحرب العالمية الثانية على مشاريع اقتصادية أكبر حجما. ولم تكن سنة 1950 بأحداثها تلقي ظلالها على المغرب، حتى صارت المنطقة الصناعية في الدار البيضاء أكبر من مثيلاتها في كل المدن الإفريقية، وهذا ما تؤكده إحصائيات أجنبية.
أحد الباحثين الأجانب الذين وثقوا لهذه الثورة الصناعية، بل وتنبأ للمدينة أن تصير مليونية في العقود التي تلي الخمسينيات من القرن الماضي، هو الكاتب البريطاني برنارد نيومان. والذي كتب عن تجربة زيارته إلى المعامل في الدار البيضاء، في كتابه المثير«Morocco Today» قائلا:
«احتل الفرنسيون المكان سنة 1907، وكانت المدينة وقتها عبارة عن ميناء صيد صغير يسكن بالقرب منه 5000 نسمة. لسنوات، كان الفرنسيون «يَقرِضون» الساحل المغربي، إلى أن تمكنت شركة فرنسية في الأخير من الحصول على امتياز بناء ميناء في الدار البيضاء.
في واحدة من الانتفاضات المعادية للأجانب، قُتل عدد من العُمال الأوروبيين. أطلقت السفن الحربية الفرنسية النار، ونزلت القوات إلى الأرض، وسرعان ما امتدت سلطتهم إلى المناطق المحيطة. في ذلك الوقت كانت المناطق الخاضعة للسلطان قليلة. ومنذ ذلك الوقت، كان تقدم القوات سريعا.
ربما تكون الدار البيضاء أفضل مدينة في شمال إفريقيا، وأكبرها مساحة، بعدد سكان يتخطى 700 ألف نسمة، ويستمر في التزايد.
إنها تستقبل أكثر من 75 في المائة من مجموع الصناعة المغربية، وتحتل ثلث المساحة الحضرية للبلاد. وكما يمكن تخيله، فإن المدينة لم تتمكن من الإفلات من المشاكل التي كانت تنمو وقتها كالفطر».
وعن الأجواء التي اشتغل فيها المهاجرون المغاربة الأوائل إلى مصانع الدار البيضاء، يقول: «تحدثت إلى العديد من عمال الرصيف. كما في بريطانيا، بدا أنهم قبيلة مستقلة عن باقي العمال. وحسب المعايير المغربية العامة، فإن أجورهم كانت جيدة – يكسبون 450 فرنكا مقابل تسع ساعات عمل في اليوم- بمعدلات تعويض عن العمل الإضافي تصل إلى مائة في المائة.
عندما يشتغل عامل الميناء 12 ساعة في اليوم، فإنه يربح 914 فرنكا. ينضاف إليها تعويضات أخرى مثل التعويض عن الأطفال، والذي يصل إلى خمسين فرنكا في اليوم، والعطل المؤدى عنها، المنح، والتعويضات عن المرض والحوادث.
رؤساء العمال والميكانيكيون المنتمون إلى الفريق الرسمي الدائم، مؤهلون للحصول على وظائف أعلى، ويكسبون أجورا تصل إلى 1000 فرنك في اليوم. بالنسبة إلى المغاربة، فإن هذا المبلغ ضخم.
الموظفون المُسيرون، كانوا متحمسين بخصوص موضوع نمو الميناء. وطبعا، كل مسؤول يعتقد أن القطاع الذي يشتغل فيه هو الأكثر أهمية من القطاعات الأخرى.
أحد ضباط الأمن، وكان مغربيا، كان يتحدث مثرثرا، وفي صوته نبرة انتشاء. يقول:
-«كما في أغلب أرصفة الموانئ، تحدث لدينا الكثير من حوادث السرقات الصغيرة. لكن في السنة الماضية، تراجع عددها إلى ستمائة، بعدما كان معدلها سابقا خمسة آلاف».
-«كيف حققتم هذا الأمر؟ بتوظيف المزيد من رجال الشرطة؟».
-«لا. بفرض قوانين أكثر صرامة. في المدينة، إذا سرقت كيلوغراما من السكر، سوف يتم إرسالك إلى السجن لمدة ثمانية أيام. أما إذا أقدمت على هذا الفعل في الميناء، فالعقوبة ستة أشهر!».
وعدتُ نفسي أن أبقي يداي بعيدا عن سُكّره الذي بدا أن ثمنه باهظ جدا، بسبب عقوبة من هذا النوع.
ثم توجهتُ إلى مدرسة لتكوين البحارة. في الوقت الحاضر، فإنها تشغل مكانا مؤقتا فوق مساحة واسعة، لكن أعطيت وعود بتشييد مبان جديدة لاحتضان المدرسة. كان هناك مائة وخمسون رجلا في التدريب. عندما يدخلون إلى المدرسة، فإنه يتعين تعليم أغلبهم القراءة والكتابة أولا. وبعد ذلك، يُنقلون إلى مرحلة دراسة مدتها أربع سنوات، يدرسون خلالها المحركات، الراديو، الملاحة، ومواضيع أخرى معقدة. المدرسة كانت عملية جدا، ومعداتها تتضمن قارب صيد للرحلات التجريبية».
قصف 1907 الذي محا الدار البيضاء القديمة وأسس ملامح «كازا بلانكا»
كان الصحافي والرسام البريطاني لاورنس هاريس، موفقا جدا، عندما نقل في ربورتاج مكتوب، حرره خلال وجوده في المغرب سنة 1909، لحظات حرجة من القصف العسكري الفرنسي الذي حول الدار البيضاء القديمة إلى خراب حقيقي، أعاد الفرنسيون بناءها من جديد حسب مخططهم المعماري والاستعماري.
نقل هذا الصحافي، في مادة صحافية سجلها في مذكراته التي صدرت في السنة نفسها، ونقلتها عنه صحف بريطانية وأمريكية أرّخت لهذه الأحداث الأليمة، ما حكاه له رجل مغربي نجا بأعجوبة من الموت، بعد مشاركته في أحداث تمرد القبائل ضد الفرنسيين والإسبان في الدار البيضاء. يحكي هذا الصحفي نقلا عن المغربي الذي كان اسمه «عزيز»:
«..ورغم أن سي عزيز رابع إخوته، إلا أنه أقواهم وأكثرهم شجاعة، واستطاع في الوقت الذي انقطعت فيه الصلة بيننا أن يعيد جمع ثروة وإعادة بناء المنزل الكبير والعودة إلى التجارة، لأصادفه اليوم». وقد نقل على لسانه ما يتعلق بقصف الدار البيضاء سنة 1907:
«كلما تذكرت تلك الأكاذيب التي يقولونها يصيبني صداع حاد. لقد جاؤوا الآن إلى الدار البيضاء، ليقوموا ببناء خط حديدي لآلة مسكونة بالشر. من سمح لهم ببنائها على كل حال؟ إنهم يعلمون أننا لا نريدها على أرضنا. عندما ينهونها سوف يأتون بجنودهم لحمايتها، وسيقولون إنهم يستكشفون أرضنا فقط.
لقد كنت في الدار البيضاء وقتلت نصرانيا بخنجري. لم يكن هناك أحد ليمنعنا، لذلك أخذنا في قتلهم. الأجانب يغلقون أبواب بيوتهم ويحتمون داخلها. لقد كنت في الصويرة أبحث عن القنصل الإنجليزي، السيد «مادن»، لقد رفض أن يجعلني واحدا من المحميين، لذلك كنت أبحث عنه لقتله بخنجري، لقد أحكم إغلاق بيته، ولم أستطع الوصول إليه. أقسم بالله أن النصارى كانوا خائفين. لقد كانوا يحتمون ببيت القنصل، ويصعد بعضهم إلى سطحه ليطلقوا النار. لكننا اعتقلنا بعضهم في عقر منازلهم. يا إلهي كم كانت منازلهم جميلة. نحن القرويون لم نر في حياتنا تلك الأشياء الرائعة، وكنا نخاف منها، لأنها كانت مسكونة بأرواح شريرة. لذلك كنا نحطم كل ما نراه أمامنا من أمتعتهم.
أحد الإسبان أطلق علينا النار من نافذة بيته، وكان يصوب جيدا، لكن حسن، المتحدر من دكالة، وأخاه، قاما بمحاولة لاقتحام بابه. صوب بندقيته باتجاههما، وأرداهما قتيلين فورا. عندما تفقدناهما وجدناهما مصابين برصاصتين بين عينيهما.
«واهلي واهلي».. كان يصوب جيدا ذلك النصراني.
لم ننجح في اقتحام باب البيت وتحطيمه، إلا بعد سقوط بعض الرجال. وجدنا زوجته فقط، أحرقناها، وأمضينا ساعات متواصلة نبحث عن ذاك النصراني.
موسى، الذي كان بعين واحدة، وجد بعض الخمر في بيت النصراني، ذلك الشراب الذي يحول المسلمين إلى شياطين. شرب منه موسى وبعض الرجال، أنا لم أتذوقه قط. بدؤوا في الرقص لساعات، كانوا سكارى ويرقصون. فجأة وجد موسى غطاء في إحدى زوايا البيت، ما إن رفعه حتى ترنح ليسقط في حفرة. انفجرنا ضحكا على موسى، وبعد تفقدنا له رأيناه يتصارع مع النصارني صاحب البيت.. لقد كان طوال الوقت مختفيا في ذلك القبو ونحن نرقص فوقه. سحبناهما إلى أعلى لنجد موسى ميتا، فقد كسر النصراني عنقه. أخذنا النصراني لنريه جثة زوجته المحروقة، قبل أن نقتله إلى جانبها. كان المنظر فظيعا. زم شفتيه وأغلق عينيه، لينال الطعنات القاتلة من رجالنا، إلى أن خر صريعا قرب جثة زوجته، فيما كانت الطعنات تملأ جسده.
(..) من كان يستطيع البقاء في الدار البيضاء، بعد أن نزل فيها أصحاب الأسلحة المدوية التي تهدم المنازل بطلقة واحدة؟ أتذكر جيدا كيف أن السيد «مادن» توجه إلى تلك السفن، وطلب منهم التوقف عن قصف المدينة. رجعت إليها بعد أن توقف القصف، غيرت هندامي ولم يتعرف علي أحد.. كنت أتجول في المدينة وكانت الشوارع مليئة بالجثث وآثار إطلاق النار. رأيت القائد، سي بوبكر، رفقة خدامه يشرف على جمع الجثث من الشوارع. اختفيت عن الأنظار في منزل مهجور أطل من النافذة، ورأيت الجنود الأوروبيين يقتلون كل شيء أمامهم. أحد اليهود سمع صوت الجنود قادمين في الشارع، فأخرج رأسه من نافذة منزله صائحا: «عاش الفرنسيون»، وكرد على ترحيبه، فقد أصابته رصاصة في الرأس».