يونس جنوحي
رحلتُه الأخيرة كانت على متن قطار عادي، للمشاركة في ندوة علمية حول الرحلة الاستكشافية العجيبة التي شارك فيها سنة 1970، والتي قطع خلالها المحيط الأطلسي، على متن زورق صغير، من شاطئ آسفي وصولا إلى القارة الأمريكية!
عندما ركب المدني آيت أوهمي القطار لقطع المسافة من مقر سكناه إلى مكان الندوة، أصيب بوعكة صحية، كانت سببا في وفاته، يوم الأحد.
الندوة كان مخططا أن يتحدث فيها المدني بحضور أكاديميين، عن تجربته رفقة فريق العالِم النرويجي، د. هيردال، لقطع المسافة من شاطئ آسفي صوب الشواطئ الأمريكية، وفق طريقة الإبحار التقليدية المعتمدة منذ آلاف السنين، دون إقحام لأي تكنولوجيا ملاحية، لدراسة وتأكيد وجود علاقات واتصال بين الحضارات القديمة التي عاشت على ساحل المحيط، من الجهتين.
يوم 17 ماي 1970، كان المدني شابا يتمتع بفائض من الطاقة، لم تسعه أزقة آسفي ولا محيطها. لذلك وافق على ركوب الزورق مع النرويجي ومن معه للوصول إلى أمريكا، أو البرازيل، أو أي مكان آخر، لا فرق.
حتى بالإمكانيات الحالية، تبقى هذه المغامرة خطيرة واحتمال نجاحها يبقى غير وارد. والسبب كثرة الكوارث المناخية وهيجان المحيط، واحتمال أن يجرف التيار الزورق لآلاف الكيلومترات، وهو ما يعني هلاك الركاب.
فكرة رحلة الباحث النرويجي لم تلق ترحيبا، قبل 55 سنة تقريبا، رغم هدفها العِلمي. والأمر شبيه باقتراح رحلة صوب القمر، مع احتمال عدم العودة، أو عدم الوصول أصلا.
المقاهي الشعبية الموجودة خلف البنايات المطلة على شاطئ آسفي، كانت شاهدة على جلسات الإقناع والتحضير للرحلة. كؤوس «نص نص»، والشاي بالنعناع، الفارغة كانت لوحدها شاهدة على لحظات الإحساس بالتردد والتخوف، الذي سيطر على ملامح مرشحين سابقين للمشاركة في المغامرة.
المدني دخل التاريخ عندما بقي صامدا إلى حين الإعلان عن انطلاق الرحلة، التي غيرت حياته جذريا. عبور المحيط الأطلسي على متن زورق يكاد يكون بدائيا، عودة اختيارية إلى الظروف الملاحية المميتة التي سبقت ثورة النقل البحري في زمن نظام تحديد المواقع والمحركات القوية.
وضع المدني أيضا حياته بين كفيه وألقى بها إلى المحيط في سبيل إنجاح الدراسة العلمية للدكتور النرويجي، الذي كان سخيا مع الجميع، إلا مع نفسه كما تردد بعد الرحلة على ألسن الناجين.
حاولت فرق أخرى قبل سنة 1970 وبعدها أيضا تكرار التجربة لأهداف علمية، وأخرى من باب المغامرة فقط، وأيضا لتحطيم الأرقام القياسية، لكن محاولات أغلبها لم تنطلق أساسا، أو أنها توقفت في منتصف الطريق، وأنقذت السفن التجارية الضخمة حياة المشاركين فيها.
رحل الحاج المدني إذن، الرجل الذي شارك في واحدة من آخر الرحلات البحرية الخطيرة، مُبحرا على خطى جده «بن حدو» أو الأزموري كما لقبه البرتغاليون، والذي شارك رفقة كولومبوس في رحلته الشهيرة التي اكتشف فيها القارة الأمريكية.
ماذا كان يصنع الأزموري مع طاقم كولومبوس الشهير؟ لقد كان البرتغاليون أثناء رحلاتهم الاستكشافية يفضلون أخذ البحارة المغاربة معهم، لأن أجدادنا كانوا يلقبون بقاهري الموج. وما زالت بعض قبائل أمريكا اللاتينية إلى اليوم تحتفظ بمخطوطات ونُصب تخلد وصول الأزموري إليها، ليكون أول أجنبي يصل إلى جنوب القارة، بل وينشر الإسلام، في وقت كان فيه كولومبوس ومن معه يبحثون عن الملح والذهب.
ها هو آخر حفيد لمن قطعوا المحيط، يرحل صامتا بعد أن أنهى رحلته الأخيرة في هذه الحياة على متن قطار يركبه الآلاف يوميا، وينزلون منه ناقمين في الغالب على تأخر المواعد والهزّات التي تمخض أطرافهم، تماما كما مخض الموج أمعاء بحارة على متن قارب صغير، كانوا يخططون للوصول إلى الضفة الأخرى للمحيط.
رحم الله الحاج المدني. رجل رحمه المحيط الأطلسي، قبل نصف قرن، وبدل أن يُغرقه كما فعل مع الكثيرين من الأسلاف والأجداد، منحه تأشيرة لحياة حافلة عاش كل لحظاتها في الظل، كما لو أنه لم يكن مغامرا من طراز الأزموري الجد.