المدفونون بيننا
يونس جنوحي
يجب أن يفكر المسؤولون في تأسيس إدارات خاصة بأرشيف المقابر الأجنبية. إذ إن بعض المدفونين في المغرب دفنوا معهم جزءا مهما من تاريخ المغاربة.
إذا كانت عائلة الرئيس الفرنسي الأسبق الراحل، جاك شيراك، وهو أحد الوجوه المؤثرة في العالم وفي أحداث السنوات الأخيرة من القرن الماضي، مدفونة في مقبرة صغيرة خاصة بالنصارى في قلب مدينة تارودانت، فإن شخصيات أخرى عسكرية لعبت دورا كبيرا في التاريخ، دفنت في مقابر متواضعة في أزقة منسية داخل مدن صغرى مثل تارودانت والصويرة.
أخبرني أحد الأصدقاء بأن جاك شيراك في أيامه الأخيرة كانت لديه رغبة لكي يُدفن في تارودانت، إلى جانب قبر جدته التي كان يحبها خلال مرحلة طفولته بالمدينة. لكن ربما لم يكن لأسرته ومعارفه الوقت لتحقيق هذه الرغبة الأخيرة لأحد أشهر رؤساء الجمهورية الفرنسية، وفضلوا أن يدفن في مقبرة «مونبارناس» بباريس، حيث حضر جنازته رؤساء الدول العظمى وسياسيون من فترة التسعينيات، مثل المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر، كما أن القصر الرئاسي الروسي أعلن عن استعداد فلاديمير بوتين لحضور الجنازة سنة 2019. ولو أن أحدا ما حقق تلك الرغبة لجاك شيراك، لرأينا رؤساء الدول العظمى يسيرون في شوارع تارودانت، وراء الرئيس الفرنسي الأسبق إلى مثواه الأخير.
في مدينة طنجة، على اعتبار أنها أول منطقة مغربية انفتحت على العالم، خاصة أوروبا وأمريكا، فإن الحديث عن المقابر الأجنبية يبقى موضوعا تتلاطم فيه «الأمواج». ولا مكان فيه للسوريالية، فقد دُفنت فعلا في عاصمة البوغاز شخصيات أوروبية وأمريكية صنعت جزءا مهما من القرار السياسي العالمي، بينها أثرياء ومشاهير وسياسيون مؤثرون فضلوا أن يتقاعدوا في المغرب، بالضبط في المنطقة الدولية، ودُفنوا في مقابر خاصة، منهم من اشتراها من ماله الخاص وحولها إلى مقبرة مطلة على البحر المتوسط، مثل ما حدث مع «إيميلي كين».
وهنا نذكر قصة مثيرة لأجنبي اسمه «غراهام ساكسون»، توفي في طنجة سنة 1919 بعد أن عاش بها منذ 1879، حيث قضى سنوات طويلة بين مهامه الإدارية موظفا في التمثيليات القنصلية والدبلوماسية لإسكتلندا، ثم مسؤولا عن العلاقات العامة في شركة استيراد برأسمال بريطاني. هذا الأخير كان يعيش تقاعدا مريحا بطنجة، حتى أنه خلال بداية الحرب العالمية الأولى كان مشهورا في المدينة القديمة، حيث كان يجلس أمام الميناء القديم للمدينة حاملا معه آلة تصوير، ويقوم بالتقاط صور للبواخر العسكرية التي تحمل معدات الجيش الفرنسي خلال الحرب، واتُهم في أوساط الطنجيين بالجاسوسية، بحكم أنه كان يصور الجنود والمدافع والبواخر. لكن في الأخير اتضح لهم أنه أصيب بالخرف، خصوصا بعد أن تركه أولاده ورحلوا إلى اسكتلندا، وبقي وحيدا في منزله بمنطقة جبل الكبير، حيث لم يبق معه سوى خادمه «العربي»، الذي تكلف برعايته إلى أن توفي. ولم يحضر إلى جنازته سوى أعضاء وموظفين من السلك الدبلوماسي. وعندما وصل الخبر إلى أسرته، جاء أبناؤه إلى طنجة لكي يقوموا بتصفية ثروته، لكنهم فوجئوا بأنه كتب وصية يورث فيها كل ما يملك إلى طباخه الوفي العربي، ولم يترك لزوجته وأبنائه سوى كلب مدلل كان يرافقه لسنوات، لكي يتعلموا منه الوفاء.
هذا الدبلوماسي الاسكتلندي الجنسية مدفون في مقبرة صغيرة، حسب ما أشارت إليه شهادة أرشيف من تلك السنة، أي 1919، والأكيد أن قبره لا يزال موجودا إلى اليوم. وهذا الرجل كان محظوظا مقارنة مع أحد زملائه البريطانيين، حيث إن زوجته أرادت أن تأخذ جثمانه ليدفن في بريطانيا ولم تقبل أن يدفن في المغرب، علما أنه توفي في عز صيف غشت. وعندما أنهت ترتيبات الإدارة لنقل الجثمان بحرا إلى أرض أجداده، اضطر ربان الباخرة إلى العودة إلى طنجة في اليوم الموالي، لأن رائحة النعش لم تكن تطاق، وخيّر الزوجة بين أن تعود بزوجها ليدفن في مقبرة النصارى في قلب طنجة، أو أن يرمي الصندوق في البحر، فاختارت أن تعيده إلى حيث كان ينتمي.
بعض الأماكن ترفض أن تلفظ الذين أحبوها، والمغرب واحد من تلك الأماكن.