شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

المختار الزنفري :قصة لجان «الكاريان» والفُرن الذي يُطعم المعتقلين لدى بوليس فرنسا

حياة في ظِلّ ملِكين

يونس جنوحي

لا بد أولا أن أشرح كيف اعتنى الوطنيون بطفل في مثل سني في ذلك الوقت، في مدينة «فضالة»، وكيف التقطوني من باب مكتب الباشا لترحيلي فورا عن المدينة، صوب الدار البيضاء.

عندما جئتُ لأول مرة إلى فضالة، هناك رجل فاضل رحمه الله، اسمه عبد الله السوسي، وكان يعمل ممثلا لحزب الاستقلال. وأذكر هذه الجزئية هنا، لأشير إلى أنني، رغم حداثة سني، كنت ابنا للحزب، ومتحمسا للنضال، رغم أنني لم أكن واعيا سياسيا بعدُ.

كنتُ قد سألتُ عنه، وأشاروا إليّ بالتواصل معه، وقلتُ له إنني كنت في الحزب في الجديدة. وأعترف أنه لم يصدقني في البداية. وقال لي:

-«أنت كنت في الحزب؟».

لقد تأثرتُ بفكرة الانضمام لحزب الاستقلال، لأنني رأيتُ أعمامي يناصرون الحزب. عمي عبد الله، وعمي حمزة، وعمتي الضاوية، رحمهم الله جميعا، كانوا مؤمنين بحزب الاستقلال ومن أنصاره. ووالدي أيضا كذلك، سواء عندما كان في الجديدة أو عندما انتقل إلى البادية.

أجبتُ إيجابا. وقال لي إنه يتعين عليّ أن أحضر له ورقة من الجديدة، لكي يتأكد.

لا يفوتني أيضا أن أذكر أن استقراري المؤقت في الجديدة في منزل أختي، وعملي رفقة زوجها في التجارة، ساعدني على الانضمام إلى الحزب. ولذلك اهتم بي الأعضاء عندما جرى توقيفي في «فضالة» بسبب جريدة «العلم».

في فضالة، استقررت في منزل، كان يقطن به وطنيون من مدينة وجدة، جرى تهريبهم إليه لأنهم تورطوا في مشكلة مع الفرنسيين. وكانت تلك أول مرة أحتك فيها عن قرب مع مبحوث عنهم من طرف الفرنسيين. لقد تبناني أعضاء الحزب.

هناك سبب آخر لاعتنائهم بي، وهو أنني عندما تطوعتُ لبيع الجريدة، كانوا يرون في خطوتي تلك مغامرة حقيقية، واعتبروا أنفسهم مسؤولين عني، لأنهم سمحوا لي بمزاولة هذا النشاط منذ البداية. إذ كنت أنتظر وصول حافلات «كارنو» التي تنقل المسافرين والبضائع يوميا من الدار البيضاء صوب فضالة ومدن أخرى، وأحصل على رزمتي، وأهيم بها لبيعها. وهكذا عندما جرى توقيفي، اعتنوا بي. وقرروا أن أذهب إلى الدار البيضاء.

 

مقهى الحاج عُمر..

في الدار البيضاء، تسلمني المقاومون أواسط سنة 1948 كما أسلفتُ. لم أكن أعرف أين سوف أسكن، ولا أين سوف أستقر. كانت كلمات مُرافقي، الذي تعّرض لي عند عتبة مكتب باشا فضالة، لا تزال ترن في أذني طوال الطريق. وبما أنني كنت جوّالا، لم أُبد أي ممانعة، بل انغمستُ في المغامرة.. حتى أنني عندما ذهبتُ إلى «فضالة» أول مرة، -حتى أكون صادقا- أبحث عن عمل لكي أعيل نفسي بالدرجة الأولى.

عندما وصلتُ بمعية مرافقي – وكان اسمه سي «احماد» وكان يعمل في مرأب في فضالة- أذكر أننا نزلنا في منطقة درب السلطان. الضجيج والمارة والوجوه الجديدة، أثارتني. وكنتُ قد قررت أن أطوي صفحة «فضالة» نهائيا، وأبدا بمعية الإخوان صفحة جديدة تماما في الدار البيضاء.

هناك، كان الأمر مختلفا. لم يكن عامل السن مشكلة في الحقيقة، بل كان ميزة إضافية، زادت من تشجيع المحيطين بي لكي أنخرط معهم.

بمجرد ما أن دلفتُ المقهى في درب السلطان، وكان يملكه الحاج عمر، وهو مقاوم من المقاومين الكبار، وأفضاله كثيرة على عدد من الوطنيين والمناضلين، وجدت محمد الفقيه البصري، وكان وقتها في عنفوان شبابه، وفي كامل ألقه، جالسا إلى إحدى طاولات المقهى.

لم أكن أعرفه، وكانت تلك أول مرة أراه فيها، وجرى تقديمي إليه، وضحك عندما حكوا له قصتي مع باشا فضالة، وكيف أن الشرطة والمقدم أوقفوني متلبسا ببيع صحيفة «العَلم»، وكيف أنني واصلتُ بيعها من أعلى عربة الشرطة!

في ذلك المقهى، سوف أعيش الكثير من الذكريات، بحلوها ومُرها، وتحت سقفه، وبين طاولاته، التقيتُ وجوها كثيرة لمقاومين وفدائيين، ووطنيين، رحمهم الله.

في ذلك اليوم الذي وصلتُ فيه، رافقني الحاج عمر إلى الطابق العلوي، وتغذيتُ عنده، ونادى على أحد مساعديه وأمره أن يصطحبني إلى «الكاريان»، وذكر له اسمين: «العبدي» و«سيدي»، لكي يودعني عندهما.

 

أداء القَسَم

من الأمور المهمة، ولكي أوضح بعض اللبس الذي قد يتبادر إلى الأذهان، بخصوص حداثة سني سنة 1948، والذي لم يكن يتجاوز أربع عشرة سنة، إذ كيف يُعقل أن يقبل حزب سياسي انضمام «طفل» إلى صفوفه، فبالأحرى أن يتورط في نشاط محظور يتمثل في ترويج جريدة «العَلم» في منطقة مُنع فيها تداول الصحيفة.. وما وقع، أن أحد أبناء عمومتي، توسط لي وقتها لدى أحد الوطنيين، واسمه عبد السلام العبدي، لكي أنضم إلى صفوف الحزب. فقد كان قاسم العراقي، يرفض بالمطلق أن يقبل بي في «الاستقلال».

عبد السلام العبدي، كان يملك فرنا تقليديا في منطقة درب غلّف. وإلى جانب الفرن كان يفتح دكانا صغيرا. وفي داخل ذلك الدكان أديتُ القَسَم للانضمام رسميا، وبصفة مسؤولة، إلى صفوف مناضلي حزب الاستقلال.

ألح عبد السلام العبدي رحمه الله، على ضرورة انضمامي إلى الحزب، بل وقال وقتها إنه يضمنني، وأنني «على مسؤوليته». وتكلف بإحضار الورقة من مدينة الجديدة، بعد أن تواصلتُ مع ابن عمي هناك وقلت له إنه يتعين عليّ الحصول على شهادة تُثبت أنني كنت نشيطا في صفوف الحزب هناك. وفاجأني عبد السلام العبدي رحمه الله باعتنائه بهذا الموضوع، وأنهى كل شيء بنفسه. ولأنني لم أكن أتوفر على عنوان سكن في ذلك الوقت، فقد كتبنا عنوان مقهى الحاج عُمر. وهل كنتُ أملك عنوانا آخر؟

 

 

الحياة داخل الكاريان

كيف يمكن أن أصف الحياة داخل «الكاريان سنطرال»؟ لقد كان الحي كله خليطا من كل جهات المغرب. لم أحس بالغُربة وأنا أدلف إلى الكاريان أول مرة. التوصية التي أتيتُ بها إلى هناك، والتي كان مصدرها الحاج عمر رحمه الله، كانت كفيلة بتعبيد الطريق أمامي، رغم أن طرق الكاريان وأزقته كانت كلها محفرة وملتوية وضيقة.

رأيتُ البؤس الذي تغرق فيه العائلات المغربية المهاجرة إلى أطراف الدار البيضاء بحثا عن عمل، وأحسستُ أنني أدخل مغربا مكثفا ومصغرا.

ورغم أن الفقر كان يخيم على المكان بظله الثقيل، إلا أن الكاريان كان مدرسة حقيقية في الحياة. فقد وجدتُ فيه من يهتمون بالمسرح، ومن ينشرون الفكر الوطني ويعملون على توعية الناس سياسيا.

في اليوم الأول الذي وصلتُ فيه إلى الكاريان، لم نجد «العبدي»، لكننا وجدنا «سيدي». وجدناه في «حانوت» يملكه رجل يسمى «الصغير».

عندما علموا بقصتي، فرحوا بي كثيرا، بل واحتفوا بي حسب إمكانياتهم البسيطة.

«سيدي» كان يسكن في برّاكة متواضعة ومتهالكة، وتعشيتُ عنده. وداخل «البرّاكة»، كان لديه محل إضافي، فرشه من أجلي، وعرض عليّ أن أقضي الليلة هناك، في انتظار الغد. وبحث عن شخص اسمه عبد الله «بوتران». كانوا يلقبونه هكذا.

هذا الرجل الفاضل، هو الذي وفّر لي أول برّاكة أسكن فيها في قلب الكاريان سنطرال. وتلك البرّاكة، كان أمامها فرن يملكه رجل يعمل في «معمل السكر».

عندما سُويت مسألة عضويتي في الحزب، صار بإمكاني حضور الاجتماعات التي تُنظم داخل «الكاريان». كانت اجتماعات أسبوعية تُنظم داخل واحدة من «البراريك» المُنشأة من «القصدير»، شأنها شأن بقية البراريك التي يسكنها العُمال النازحون من القرى. الأغلبية يشتغلون في معامل الدار البيضاء، ويأتون في المساء مُنهكين، لكنهم يحضرون الأنشطة ويروحون عن أنفسهم.

كان عليّ أن أعيل نفسي، وأتدبر عملا لكي أعيش بين سكان «الكاريان». وفكرتُ أن أكتري الفرن من صاحبه، بحكم أنه يعمل في «لوزين»، وأسيّره بنفسي. وفعلا كذلك كان.

بفضل هذا الفرن، تعرفتُ على عدد من المقاومين، مثل المقاوم «الحرشة» والمجموعة. فقد كنا نُعد الخبز للمعتقلين. عندما نسمع خبر اعتقال الشرطة الفرنسية لأحد سكان الكاريان أو اعتقال متظاهرين في الشوارع، نبادر إلى عجن الخبز، وإرساله إلى هؤلاء المعتقلين. وحتى أسر المعتقلين القاطنين في الكاريان، كانوا يتزودون بالخبز من ذلك الفرن في انتظار الإفراج عن مُعيليهم.

وليس هذا وحسبُ، بل من ذلك «الفرن» انطلقت أولى فرق المسرح. وكان اليوم الذي تؤدّى فيه المسرحية، بمثابة عيد حقيقي في «الكاريان». إذ يحتشد الجميع لمتابعة المسرحية. الممثلون من السكان والمتفرجون من السكان. وهذه المسرحيات كانت تحاكي مآسي سكان هذا الحي الصفيحي الفقير، ومعاناتهم مع المعمرين الفرنسيين وهزالة الأجور التي يتقاضونها في المعامل، خصوصا في «معمل السكر». وكنتُ بدوري من الممثلين، وخضنا تجربة تأليف المسرحيات والتدرب عليها. وسوف نأتي إلى تفاصيل هذه «المغامرة» التي كانت تُقام في الهواء الطلق، وتؤثر في الناس أكثر مما تؤثر الخطابات السياسية.

 

 

النشرة!

داخل «الكاريان» كانت هناك لجان. كل لجنة تمارس أنشطة مُعينة. وكل لجنة كانت تتوفر على كاتب عام، وأمين.

ومن بين أهم اللجان الموجودة، لجنة «النشرة». والتي كانت مهمتها الاجتماع لمتابعة أخبار العالم وتوفير القصاصات لكي تُقرأ على أسماع الأعضاء. كان أحد الحاضرين، من المتعلمين جيدا، يتطوع لقراءة الأخبار، مثل مذيع حقيقي. ولم يكن هناك «مُذيع» واحد، بل يتطوع أحدنا في كل مرة لأداء هذا الدور.

يتحلق حوله الشباب، وحتى الأطفال أحيانا، ويشرع في قراءة أخبار العالم.. أخبار من باكستان وأخرى من أوروبا. بلاغات من حكومات لم نسمع بها من قبلُ، وأسماء زعماء ورؤساء وملوك، كانت كلها تتردد تحت السقف الصفيحي لمكان الاجتماع.

وطبعا، كانت هناك الكثير من الأخبار «غير المرغوب» فيها، خصوصا أخبار المظاهرات ومطالب الاستقلال عن الاستعمار، وأخبار الاعتقالات.

وكانت تقع طرائف كثيرة في هذا الباب. حتى أن الأخبار التي تُقرأ في النشرة، تتردد ويذيع صيتها بين سكان «الكاريان»، على لسان من سمعوها، وبطبيعة الحال، فإنها لم تكن لتخلو من تحريف، سببه «سوء فهم» أثناء سماع الخبر.

هذه النشرة كانت موعدا قارا للترقي بالوعي الوطني لسكان الكاريان، وانفتاحهم على آفاق أخرى. حتى أنه عندما وصل خبر اغتيال فرحات حشاد في يوم 5 دجنبر 1952، هاج «الكاريان» كله، وتسببت المظاهرة التي انطلقت منه في استشهاد المئات، حتى أن المكان أصبح حمام دم حقيقيا!

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى