شوف تشوف

ثقافة وفن

المجلات المغربية.. زغاريد الولادة وحداد الموت

محمود عبد الغني

إن المتأمل في تاريخ المجلات المغربية الثقافية والفكرية والفنية، التي بدأت تصدر منذ نهاية الخمسينيات إلى اليوم، سيجد نفسه أمام أوقيانوس من المعارف والعلوم والفنون. ولعلها هي المرآة الوحيدة العاكسة لتنوع المعارف بالمغرب، وللدور الذي يمكن أن تلعبه المجلات في المجتمع. كما أن المتأمل لهذا النوع من الإنتاج والتأليف سيدرك صعوبته وطابعه التركيبي والإبداعي، عكس ما يروج ويقدم المجلة باعتبارها مجرد تمرين في نشر ما هو موجود قبلاً من دراسات وأبحاث ومقالات. فلعل المجلة، بعكس الكتاب، هي الإنتاج الذي لا يتطلب «عبقرية» خاصة، بل يتطلب تأليفاً «صارماً».

أصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المجلة ذائعة الصيت «دعوة الحق» سنة 1957. وهي شهرية تعنى بالدراسات الإسلامية وبشؤون الفكر والثقافة. لذلك يمكن اعتبارها الجدة الأولى للمجلات الثقافية والفكرية بالمغرب. وقد افتتح العدد الأول من المجلة بكلمة الملك محمد الخامس اعتبر فيها أن المغرب يعيش فجر نهضته وبذلك عليه الاهتمام «بالناحية الروحية والفكرية، والعمل على تحرير العقول من قيود بعض التقاليد والأوهام التي لا تتلاءم والمفهوم الصحيح للإسلام.» كما كتب علال الفاسي نص مقال الافتتاحية، وكان يمثل زعيماً كبيرا للحركة الوطنية، أما افتتاحيته فحملت عنوان «لا جمود ولا جحود». مما يدل على أن المغاربة، في فجر نهضتهم، كانوا يراهنون أيما رهان على المجلات الثقافية ودورها الفكري العظيم في تحرير العقول.

في سنة 1958 أصدرت «جمعية الأديب» المراكشية مجلة ثقافية اختارت لها من الأسماء «رسالة الأديب». ولم تستمر المجلة إلا سنة واحدة، لتتوقف سنة 1959. وقد نوهت بها مجلة «دعوة الحق»، في افتتاحية أحد أعدادها، وانتقدتها في بعض جوانبها، حين دعتها إلى التواضع واجتناب ظهور كتابها بأسماء مستعارة مثل: ابن الشعب، مرب، مؤمن، أبي منظور، فكه، أديب، رقيب. ذلك أنه لا موجب مطلقاً، تقول الافتتاحية، لهذا التشدد في «الحجاب»، لا موجب لهذا التستر والتكتم والتواضع المصنوع. إلا أن «رسالة الأديب» كانت قد توفرت على عدة نقاط إيجابية، لعل أولاها تكمن في كلمة (صفة) «أديب» الذي كان يُنظر إليه ولصنيعه نظرة غير جدية، تضعه في صنوف الأشياء الوهمية التي لا وجود لها ولا حساب، كما كتب الأديب المصري توفيق الحكيم عن «رسالة الأديب» المصرية، ويا لتماثل الظرف والشرط والتسمية.

في سنة 1964 رأت النور مجلة من أكبر المجلات تأثيراً في الثقافة والفكر المغربيين، هي «أقلام»، واستمرت في الصدور بانتظام إلى أن توقفت سنة 1984. شغل الأستاذ والمترجم المغربي أحمد السطاتي رئيس تحريرها، فيما ضمت هيئة التحرير محمد عابد الجابري ومحمد إبراهيم بوعلو. استقطبت المجلة مفكرين وأدباء وشعراء من المغرب والوطن العربي. كان في مقدمة الشعراء العراقي عبد الوهاب البياتي، والمؤرخ محمد زنيبر، والشاعر أحمد المجاطي، والمفكر والمترجم عبد السلام بنعبد العالي، والمفكرين سالم يافوت ومحمد وقيدي وعبد الرزاق الدواي والقائمة طويلة بحيث لا يمكن حصرها، على امتداد واحد وستين عدداً، وبعد تحقيق بعض أهدافها التي تقف في مقدمتها المساهمة في التوجيه والتغيير والنقد. لقد خاضت «أقلام» معارك عدة.

وفي نفس السنة، أي 1964 أسس محمد العربي المساري وعبد الجبار السحيمي مجلة «القصة والمسرح». وهي مجلة، كما يدل على ذلك اسمها، متخصصة في جنسي القصة والمسرح، وما يرافق ذلك من تعليقات ومراجعات ونقد وتقديم كتب وحوارات.

بعد سنتين تكونت جبهة صغيرة من شعراء باللغة الفرنسية هم: عبد اللطيف اللعبي، ومحمد خير الدين، ومصطفى النيسابوري، وأسسوا مجلة صدرت باللغة الفرنسية اسمها «أنفاس». صدر العدد الأول من المجلة سنة 1966، لكنها توقفت سنة 1972. صدرت في البداية بالفرنسية ثم بالعربية. كان يديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي. وقد كانت بحق تمثل ثورة ثقافية في المغرب. شكلت المجلة بجدارة فكراً ثقافياً طليعياً ومنصة صلبة لجمع شتات المثقفين اليساريين من أجل فعل سياسي ملتزم يحلم بمغرب مغاير. كانت منطلقات «أنفاس» تأطير أسئلة سياسية وشعرية في نفس الآن، كانت وظلت شديدة الإلحاح على المثقفين والسياسيين على حد سواء. وبذلك كانت «أنفاس» المجلة النموذجية لقضية الأدب الملتزم في المغرب.

ما أن توقفت «أنفاس» حتى تأسست مجلة شعرية طليعية أخرى هي «الثقافة الجديدة». ترأس تحريرها الشاعر محمد بنيس، وضمت هيئة تحريرها المترجم والناقد محمد البكري، والشاعر عبد الله راجع، والمسرحي عبد الكريم برشيد، والشاعر أحمد بنميمون. لكن المجلة بعد نضال طويل توقفت سنة 1983. وقد كانت بقعة ضوء كبرى في الثقافة المغربية والعربية عموماً. فقد نشرت لمحمود درويش، وقاسم حداد، وأدونيس، وعبد الكبير الخطيبي، إضافة إلى عدد كبير من الأدباء والشعراء والمترجمين والمفكرين المغاربة.

في سنة 1979 صدرت مجلة ثقافية شاملة هي «الزمان المغربي» وقد ترأست هيئة تحريرها أمينة البلغيتي. لم تستمر المجلة سوى سنوات، لتتوقف سنة 1983. وقد كانت المجلة ذات خط تحريري وفكري يميل إلى الفكر الاشتراكي والتحليل الطبقي لقضايا الثقافة والمجتمع.

في سنة 1981 أصدر بنسالم حميش مجلة «البديل». وشغل منصب رئيس تحريرها. وقد استقطبت ونشرت المجلة لأقطاب الفكر العربي والعالمي مثل عبد الله العروي، وجاك بيرك، وعبدالقادر الشاوي، وعبد اللطيف اللعبي.

في سنة 1982 صدرت مجلة «المقدمة» وهي مجلة فكرية وأدبية وسعت مجالات اهتمامها في الأدب والثقافة وعلم الاجتماع والفلسفة والفكر والسياسة. وقد كانت فعلاً مقدمة في حقول معرفية شتى. لكنها لم تدم أكثر من سنة واحدة، إذ توقفت سنة 1983 .

في نفس السنة أصدر الناقد عبد الحميد عقار مجلة «الجسور»، وهي مجلة فصلية ثقافية شاملة. وتوقفت عن الصدور سنة 1984، بعد أن صدرت منها ستة أعداد. وقرار منعها هو نفسه الذي صدر في حق «الثقافة الجديدة»، «الزمان المغربي» و«البديل». وقد كان طموحها أن تصبح «بوتقة لفكر ديموقراطي جديد أساسه الحوار والنقاش والصراع الإيجابي إلى جانب جدلية المعرفة العلمية وصيرورة الواقع الحي الملموس»، كما جاء في افتتاحية العدد الأول بقلم عبد الحميد عقار.

وبمبادرة من الباحث والمترجم والناقد السينمائي مصطفى المسناوي صدرت سنة 1986 مجلة «بيت الحكمة». لكنها توقفت سنة 1988 بعد إصدارها لأعداد مرجعية في الثقافة والفكر العربي والعالمي، وفي مختلف حقول المعرفة. طيلة مدة صدور المجلة، عدداً بعد آخر، ظلت مرجعاً للباحثين في السيميولوجيا، وعلم الاجتماع، والفلسفة، وعلم اللغة.

وفي سنة 1985 صدرت مجلة «الجدل». وهي مجلة فلسفية خالصة. ترأس تحريرها الباحث في الفلسفة رضوان سليم. لكن مصيرها كان التوقف بعد ثلاث سنوات، أي سنة 1988.                  في سنة 1986 صدرت إحدى أهم المجلات الأدبية والفكرية المغربية: «عيون المقالات» التي عمرت أكثر من سابقاتها. وقد ترأس تحريرها محمد الحيان، وعبد الصمد بلكبير. ولم تتوقف إلا سنة 1993. كانت أعداد المجلة تثير شغف ولهفة الباحثين في كل المجالات. وقد كانت مرجعاً لا غنى عنه في مجالات النقد والأسلوبية والهيرمينوطيقا. كما أنها استقطبت أقلاماً من كل الوطن العربي، ونشر فيها كبار النقاد والأدباء والفلاسفة.

بعد سنوات من مخاض في المجلات الشهرية والفصلية والدورية، أصدر مجموعة من الجامعيين واللسانيين والبلاغيين سنة 1990 مجلة «دراسات سيميائية أدبية لسانية»، ترأس تحريرها الناقد والمترجم حميد لحمداني. وقد كانت أهداف المجلة واضحة، وخطها التحريري ينساق وراء الدراسات الجامعية في حقول اللسانيات، النقد الأدبي، السيميائيات والبلاغة.

ومنذ منتصف التسعينيات تتالت المجلات: «الملتقى» (1987، عبد الصمد بلكبير)، «المناظرة» (طه عبد الرحمن، 1989-1993)، «التواصل اللساني (1990، محمد الحناش)، «فضاءات مستقبلية» (1995 محمد البكري)، «مجرة» (1996، محمد البوكيلي)، «فكر ونقد» (1997، محمد عابد الجابري)، «الأزمنة الحديثة» (2008، عبد الله ساعف)، «دراسات مغاربية» (عبده الفيلالي الأنصاري، 1997)، «دفاتر الشمال» (عبد اللطيف البازي، 2002)، «مدارات فلسفية» (محمد سبيلا، 1992)، «سينما»(بالفرنسية، نورالدين الصايل)، «دراسات سينمائية» (الجامعة الوطنية للأندية السينمائية). وقد توقفت كلها لهذا السبب أو ذاك.

من خلال جرد هذه المجلات التي طبعت تاريخ المغرب الأدبي والثقافي والسياسي والفكري، يتضح أن المجلة، كيفما كان حقل تخصصها، هي ضرورة للمجتمع، للعلم، للتواصل. وتوقفها يعتبر خسارة كبرى تستحق حداداً خاصاً.

 

  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى