شوف تشوف

الرأي

المجالس بالأمانة في القصر الجمهوري في نواكشوط

بضعة عساكر يحرسون القصر الجمهوري، وسط العاصمة نواكشوط. يراقبون المعابر المؤدية إليه من كل الاتجاهات، ولا يمنحون الزائر شعورا بأن البلاد على صفيح ساخن. فالحرارة الملتهبة في غشت أكثر لسعا من الأحداث التي تمت السيطرة عليها في ظرف وجيز.
لا يختار الإعلاميون مواقيت زياراتهم إلى الأماكن الملتهبة، فهم مثل العلامات التي تنبئ بحدوث انفجار أو انفراج في الأحداث السياسية، وحلم أكثريتهم أن يكونوا في الوقت المناسب في المكان الملائم. وليس مثل الانقلابات التي تحدث على حين غرة مدعاة لحجتهم إلى حيث لا يتوقعون. فثمة عواصم وبلدان تحلو بها السياحة ومشاهدة العروض الفنية، وثمة أخرى يقصدها الإعلاميون بلا تردد، لأنها تقفز إلى العناوين الأولى للصحف ووسائل الإعلام المختلفة.
كنت محظوظا كأول صحفي عربي يفد على بلاد شنقيط، ولم تخمد بعد آثار الانقلاب الهادئ الذي أطاح بالرئيس الموريتاني معاوية ولد الطايع. ومن كانت رفقته في عهدة الزميل عبد الله ولد المحمدي، لابد أن تنفتح أمامه كل الأسوار والألغاز. لأن صداقاته متعددة، ونبله المهني لا حدود له. عدا أنه حافظ على قياس المسافة بين الاحترافية الإعلامية والمواقف السياسية.
حين تلهج باسم ولد المحمدي تعرف أنك في موريتانيا، بل إنه في غرب إفريقيا على شساعته، وإذ يستقر قلبه في نواكشوط، يكون قلمه قد سافر في اتجاه العاصمة السنغالية دكار. ويكون عقله سارحا في صحاري مالي، كما تجول خواطره في النيجر، من دون إغفال مربط الفرس في «رباط الفتح»، ناهيك عن عواصم مشرقية وغربية.
لم يكن غريبا عن الصحفي الذي يتحدر من أسرة عريقة في الزهد والصوفية وتضاريس الزوايا الدينية، أن يصدق ويصادق. وعندما هاتفته بأني حللت بالعاصمة نواكشوط، في غمرة انقشاع الملامح الأولى لما بعد الإطاحة بنظام معاوية ولد الطايع، أجاب بتلقائية: «ستجد أبواب القصر الجمهوري مفتوحة». فقد دأب بانتظام شبه «متهور» ألا يقيم وزنا للإجراءات البروتوكولية. وعلى عادة المغاربة وأهل الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، إذا قال لك أحدهم «ما كاين مشكل»، فإن احتساب خفقات الزمن هو وحده الذي قد يؤخر المواعد أو يقدمها. لتكتشف أنه عند كلمته التي لا تراوح مكانها، فقط، يصبح بعض الصبر تمرينا معتادا.
ووجدت أنه يعبر إلى مداخل القصر الجمهوري، كما يدير مفاتيح بيته، واثقا من أن أحدا لم يغير رموزها وأشكالها.
وصارت علامات الطريق بادية في ذهنه توجه خطواته من دون تفكير أو ارتباك. هو الفناء الشاسع الذي يفصل بين بوابة الدخول وبناية القصر الجمهوري. تمددت مساحته على أشجار النخيل تظلل زوايا المكان. هنا نافورة بنيت على الطراز المغربي التقليدي تنبعث منها المياه، وهناك استراحة في شكل خيمة تحيط بها شجيرات ونباتات وورود، تتحدى قوانين النشأة والحياة.
من قال إن الصحراء تخنق اللاجئين إلى أحضانها الدافئة، بشرا أو نباتات وتقاليد في الكرامة والشهامة؟ لكن سواعد وعقول وإبداعات العمال المغاربة الذين شيدوا معالم القصر الجمهوري في نواكشوط، إنما كانت تترجم حلقة الانصهار التي تجمع بين البلدين الشقيقين. تماما كما نقل صناع مهرة المعالم ذاتها إلى فضاءات أخرى في المشرق العربي وغيره من الفضاءات التي تشي بجسارة العمران كمظهر حضاري أليف.
بلا مقدمات ندلف إلى الطابق الأرضي، ممر إلى اليسار وآخر إلى اليمين، والبساطة سمة المكان. فقد خلته قبل الوصول إليه قلعة حصينة وبوابات تراقبها الكاميرات وأجهزة الإنذار المبكر، وما شاء الله من الأسئلة حول من وما المناسبة وما إلى غير ذلك من الاستفسارات. ووجدته أقرب إلى زيارة طبيب بموعد مسبق، يكفي أن تنتظر حلول الموعد في قاعة انتظار لا يطول. الكل يعرف الصحفي عبد الله ويفتح له الطريق، والزائر الغريب الذي كنته لم يجد أي عناء في الانتقال إلى الطابق الأول عبر الدرج، كأنما هو تمرين صغير لاختبار دقات القلب عند الصعود إلى فوق.. لولا أن أضرار التبغ تكشف المستور.
ألازلت على عنادك ضد نفسك في عادة التدخين؟ يمازحني الصديق عبد الله، ونحن نتقدم خطوات في اتجاه ممر صغير بغرف مغلقة، كانت آخرها واحدة تربعت مكتبها سيدة في مقتبل العمر. رفعت رأسها عن الأوراق التي ملأت طاولتها، قالت: مرحبا بالصحافة. ثم توجهت إلي بالسؤال: هل أنت من كتب عن موريتانيا قبل يومين في صحيفة «الحياة» الصادرة في لندن؟ رددت: نعم، وهل في الأمر ما يزعج؟
ابتسمت، وتوجهت بالكلام إلى الزميل عبد الله: ألا تعلم أني لم أغادر هذا المكتب منذ يومين؟! كانت تقصد أن زحمة الأحداث حالت دون ذهابها إلى بيتها. وضحكت وهي تكابر عناء العمل: يا عبد الله هل أحضرت لي «سندويتشا» ساخنا معك؟ قبل أن يرد على طلبها رن الهاتف، وقالت بلهجة ودية، إن العقيد محمد ولد عبد العزيز في انتظاركما. ثم رافقتنا إلى مكتب مجاور لا يبعد غير بضع خطوات عن غرفتها.
ببذلته العسكرية، وقف الرجل الذي وصف وقتذاك بالعقل المدبر لإطاحة نظام ولد معاوية، مرحبا بقدومنا، انزوى إلى أريكة تؤثث مكتبه الخالي من بوادر الزينة والبذخ، وجلس بهدوء. تتشابك يداه إلى بعضهما وهو يتحدث بطلاقة وثقة. حكى عن الساعات الأخيرة لما قبل انهيار النظام المعزول، وأبدى اشمئزازا حيال تصريحات كانت صدرت عن معاوية للتو. ثم شرح الخلفيات العميقة لمبادرة قيادة الجيش التي رأت أن الوقت حان لوقف النزيف.
بسط محمد ولد عبد العزيز حقائق مثيرة، وعلى رغم نزعته العسكرية التي تميزها الصرامة، فقد أحاط في كلامه بالأوضاع الاقتصادية التي كانت تجتازها بلاده، وعرض إلى تشابك مصالح غير وطنية أدت إلى انهيار كل شيء، وفي مقدمته ثقة الشعب الموريتاني. قال إن قيادة الانقلاب عازمة على إشراك الشعب عبر تنظيم انتخابات. ودار حديث شيق في حضور رجل ثقته.
إنما المجالس بالأمانة، ولكل مقام مقال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى