المثقف العربي وازدواجية المعايير والمواقف
فلنعط مثالا بسيطا هو ما كان يقدمه «المثقف» العربي من خدمات جليلة في شتى مجالات التأييد والتعبير عن القبول، من توافد وزيارات مجاميع عديدة للعراق، إن كانت أدبية أو فكرية أو مسرحية أو تشكيلية أو نقابية أو منظمات مجتمع مدني ومن أرجاء الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، هذا يقدم عملا مسرحيا، وذاك يوجه قصيدة شعرية للتغني بالقائد، والآخر يقدم له سيفا ذهبيا مرصعا بالجواهر، طبعا ليأخذ أضعافه، (هكذا تكون التجارة وإلا فلا) في حضرة المغفلين والمهووسين من الحكام المخبولين، آخر يقدم أمام القائد كلمة إشادة بقيادته الحتمية للأمة «المنتوفة الريش»، وغيرهم الكثير، الكثير، الكثير. وفي نهاية المطاف يرفع الجميع برقيات التأييد والتثمين للمواقف الحكيمة للقيادة الفاصلة في التاريخ العربي الكفيلة بإحداث نقلة نوعية وحاسمة، وقبل ساعات لعله قد أعدم العشرات إن لم يكونوا المئات من الأبرياء، لمجرد أنهم لا يرتضون بقيادته من العراقيين، أو حتى الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يجري، بطريقة حكم قرقوشية تقضي بأن من يكون على يسار القاضي من المتهمين ظلما، نصيبهم الإعدام، أما الذين على يمينه فتشملهم أحكام أخرى، هكذا كانت تتخذ الأحكام المضحكة المبكية بحق شعب مسالم ومتطلع للكرامة المهدورة.
كل هذه الجوقات تعرف جيدا ما كان يقع في العراق من بطش فاق التصور، ومع ذلك كانوا وما زالوا «وهنا تكمن الكارثة» يدافعون عنه وعن قائده المخذول، وحين نعاتبهم يقولون: «أننا نقف مع العراقيين» والعراقيون يُنحرون يوميا على يد الجلاد وزبانيته القتلة في أقبية الأمن ودهاليزه المخيفة.
فهل من ازدواجية مواقف ومعايير وفهم أخطر وأقبح وأنجس من هذه؟
نأتي إلى المضحك المبكي، إذ ما أن نواجههم بما كانوا وما زالوا يفعلون ويدافعون ويدبجون من مديح بلغ حد التقزز المداف بالخزي والعار، ودماء الضحايا لم تجف بعد. بدون وجه حق، بل والإيغال في إيذاء مشاعر ذوي الضحايا. يدعون أن ما يحصل اليوم في العراق من فوضى وطائفية وتناحر مذهبي هي أكثر فظاعة من زمن صدام؟ بمعنى أنهم يترحمون على ذلك الجرذ بكل سوءاته وفظائعه، هنا يأتي تطبيق ما أسلفنا لقولة الإمام العادل علي (ع)، «هذا كلام حق يراد به باطل»، وهم يدافعون عن قاتل ومجرم وسفاح، بطريقة مقارنة لا تشرف حتى المخبولين من تناولها والتقول بها. لمنح هالات التبجيل لنظام فاشي، وإدانة بديله، لمعالجة أو تفسير خطأ بخطأ، والنتيجة الموقف الخطأ.
أولا: ليعلم الجميع بأننا ندين وبشدة ونرفض أسلوب الحكم الراهن المرتبط بالمحاصصة والمذهبية والمناطقية، وندعو لتطبيق الديمقراطية بكل موضوعية وتجرد، وليس بأحادية الفهم والمنطق الناقص الذي لا يخلو من الأهداف المتسترة وراء المواقف المشبوهة، إذا ما أردنا الخروج من عنق الزجاجة، وتحدث النقلة النوعية للعراق. بمعنى أننا مثلما ندين ونمقت نظام طاغية العراق، نرفض بشدة أسلوب إدارة الحكم حاليا والذي تسبب بكوارث وخراب وإفلاس للبلاد والعباد والزرع والضرع.
ثانيا: إن ما يجري في العراق هو امتداد طبيعي وواضح بشكل جلي لكل منصف وعاقل، والمراقب السوي ذهنيا، لنظام صدام ومغامراته وحروبه الرعناء وتعرض البلد لكل هذا الخراب، يعلم أنه هو من أدخل وشجّع ودعّم المتطرفين حين قدموا للعراق من أصقاع الوطن العربي، كدروع بشرية، ليتحولوا إلى مفخخات وأحزمة ناسفة وسواها من صيغ القتل الأبله لكل العراقيين بكل طوائفهم ومللهم.
ثالثا: لماذا نطرح هذا السؤال الملغوم، بأن حكم صدام كان «أرحم»، ولماذا لم يتبنوا ذات التوصيف عن نظام الأسد والقذافي وسواهما، بل كانوا يدينون هذين القاتلين وغيرهما بقوة، وتحديدا في فترة وجود طاغية العراق، لكنهم يلتزمون الصمت جراء فظائع البعث الصدامي وجرائمه، بل ويصفقون ويهللون له، ليأتوا اليوم على الترحم عليه وتبقى اللعنة على من سواه، في حين أن هذه البلدان مثل، سوريا واليمن وليبيا والعراق، كلها تتعرض لذات النكبات والخراب الآن بعد الربيع الكارثي بكل سوءاته، إن لم يكن العراق الأقل منها بكثير.
وأخيرا يأتي كائن من كان ليقول إن الابداع وتحديدا المسرح والسينما لا ينبغي أن يقترب من السياسة، يا سلام…!
وماذا كنتم تفعلون حين كرسّتم جل مسرحياتكم وأفلامكم ونصوصكم وجوارحكم المشكوك بنقائها للمديح وتعظيم الطاغية، ألستم أنتم من كان يخلط «الفن والإبداع» بالسياسة؟
يا لوقاحتكم أيها المثقفون العرب من هذا النموذج وهذه الطينة التي تصدينا ونتصدى لها. وحاشى للأنقياء والراصدين الحقيقيين لحركة التاريخ بكل ملابساته وغموضه ونكباته. هؤلاء هم المثقفون الحقيقيون الذين ما هادنوا ولا ساوموا ولا سخّروا أقلامهم لعرضها في سوق النخاسة العربي الرذيل.
دعونا أخيرا ننهي هذا التصدي بالمثل الحكيم القائل:
«إن كنت لا تستحي فافعل ما شئت»
«ولله في خلقه شؤون».