شوف تشوف

الرأي

المؤتمر الأممي للسلام

بقلم: خالص جلبي

المؤتمر الدوري السنوي الذي يعقد في مكة ويحضره الناس من كل فج عميق، يمثل أعظم تظاهرة إنسانية عرفها الجنس البشري حتى الآن. هذا الاحتشاد الإنساني مبرمج الزمان والمكان، غير قابل للتأجيل والإلغاء، غير مقيد بلغة أو عرق أو لون أو جنس؛ فهو أعظم من أي مؤتمر وتجمهر وتجمع على وجه الأرض. ولا يحلم أي مؤتمر إنساني أن يصل إلى مستواه، يشارك فيه الرجل والمرأة بحضور لا يقبل التمثيل، والدعوة مفتوحة بإلحاح طالما توفرت نفقات هذه الرحلة المصيرية للقاء إنساني فريد متميز. صفته أنه مفتوح للإنسان (ولله على الناس حج البيت)؛ ولفظة (الناس) الأممية كانت غريبة عندما أطلقها القرآن، فالناس كانت وما زالت تنتسب الى أسماء شتى من قبيلة وحزب وطائفة وشيعة. والقرآن رد الإنسان إلى أصله الذي خرج منه بدون كل الإضافات الجديدة، والهوامش التي تحجب حقيقته.
إن العديد من مظاهر الترميز في الحج لا يدركها الكثير من الناس من خلع كل الملابس، ولف الجسد بفوطة بسيطة، تعبيرا عن محو الفوارق، وإزالة الامتيازات، وزرع الديمقراطية وروح المساواة بين العباد؛ فهذا الإزار الأبيض البسيط يشع بمعان كبيرة، فهو رمز الكفن لكسر غرور الإنسان، وهو اللون الأبيض رمز الطهارة والنقاء لكسر مبدأ الغدر المستشري في العالم الإسلامي، ونشر مبدأ الأمان والثقة الاجتماعية، وهو إشعاع بزوال طبقة الامتيازات؛ فهو تنزيل واقعي لفكرة التوحيد التي تدشن وحدانية الله ومحو الامتيازات لأي شخص أو طبقة أو طائفة وملة (أن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله).
ومع كل زخم هذه التظاهرة فمعظم العالم الإسلامي لا يدرك المغزى العميق خلف المناسك التي يمارسها، فتبقى حركات يؤديها، وطاقة جبارة لا يستفيد منها؛ فهو لا يدرك (الرمزية) في الحج، ولا الدلالة العميقة لانتخاب اللون الأبيض، ولا هندسة الدوران (7 مرات) في الطواف، التي تربطه بالاستمرارية والأبدية، خلافا للحركة باتجاه واحد، أو تاريخية الصفا والمروة وعلاقتها برحلة إبراهيم عليه السلام في الشرق الأوسط، بين حضارة سومر والحضارة الفرعونية، بين الأرض التي تفيض لبنا وعسلا، وبين صحراء وواد غير ذي زرع.
ومع اللباس الأبيض غير المتميز تُعلن الديمقراطية العملية، فليس هناك امتيازات لأي شخص أو عائلة أو طبقة أو حزب أو طائفة وقبيلة. ومن اللون الأبيض يبرز معنى السلام العالمي؛ فهذا اليوم يأمن فيه الإنسان والطير والدابة والنبات وحتى شعر اللحية والأظافر فهي تسبيحة سلام هائلة، ويكف الإنسان عن الجدل (ولا جدال في الحج) ويتحول المكان إلى (حرام)، أي يحرم فيه قتل الإنسان، ومع حرمة البيت مكانا تنبثق فكرة (الحرام الزمانية)، ففي (الأشهر الحرم) يحرم سفك دم الإنسان، فمن هذا البيت القديم الذي أُسس قبل ما يزيد على أربعة آلاف سنة تم تدشين فكرة السلام العالمية، كممارسة مكررة سنوية، من أجل تعميمها عالميا، ككل تجربة ناجحة صمدت عبر آلاف السنوات، فالحج وظاهرة الأشهر الحرم كانا حتى قبل بعثة الإسلام دوريتين مكررتين في عرب الجزيرة.
وفي الحج تطغى وتسيطر على السطح فكرة الأضحية والغوص في التفصيلات الفقهية، ويغيب معنى (القربان) والإعلان الإبراهيمي؛ من التقدم بقربان الحيوان إعلانا للكف والتوقف وإلى الأبد عن التضحية بالإنسان، في كل صور القرابين التي تقدم في الحروب، تمهيدا لإعلان السلام العالمي، والدعوة إلى إقامة حلف عالمي للدفاع عن الإنسان المظلوم أيا كان معتقده ومكانه، فهذا هو جوهر مفهوم الجهاد.
ولعل فكرة (القربان) كان مصدرها الخوف من الطبيعة عند الإنسان البدائي، الذي لم يستطع تفسير الظواهر الكونية، التي حركت عنده مزيجا من مشاعر الدهشة والفضول والخوف والإجلال. قبل أن يتأسس مفهوم السنن الإلهية، والنواميس المبرمجة في تسيير الكون البديع.
يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»: «الخوف كما قال لوكريشس أول أمهات الآلهة، وخصوصا الخوف من الموت، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار، وقلما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل كان الكثير من الناس يقضون بعامل من عوامل الاعتداء العنيف، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية، وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة».
ولحل هذه الإشكالية من أجل إرضاء الآلهة والتقرب إليها ولدت فكرة التضحية بالقربان، التي بلغت ذروتها بالتضحية بالإنسان بذاته. وتروي لنا الحضارات القديمة طقوسا مرعبة من مناظر التضحية بالإنسان، عندما كان يبقر صدر الشاب القوي في حضارة الأزتيك ويستخرج قلبه وهو يخفق، بين استحسان الجمهور ورضا الكهنة، أو إلقاء مئات الأطفال إلى النار في مهرجان حربي مفزع عند أهل قرطاجنة المحاصرين، أو تنتقى الفتاة الجميلة من خيرة العائلات الفرعونية كي يتزوجها النيل، فيكون مهر الفتاة الطمي الخصيب المتدفق من هضبة الحبشة، فأبطله عمر رضي الله عنه بالطريقة المثيرة نفسها التي يؤمن بها أهل مصر، الذين كانوا يتغذون على الخرافة، التي تبثها طبقة الكهان، فقذف بين لجاته بخطاب مطوي ـ إن صحت الرواية ـ بلهجة لا تخلو من عبارات السخرية وحكمة العقل السنني: «يا نيل إن كنت تجري بسنة الشيطان فلا داعي لنا بجريانك، وإن كنت تجري بسنة الله فاجر كما كنت تجري».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى