اللغط
التقيته يوما في أحد الأنشطة الاجتماعية، كنت أعلم أشياء كثيرة عنه مسبقا نظرا لكونه صديقا ولكوني أتابع أخباره ورحلاته وكتاباته، وأعرف مستواه التكويني وثقافته العالية.. كنا نجلس على طاولة مستديرة والكل كان يتحدث. غالب الجالسين لا يعرفون من هو ولا ماذا يعمل ولا ما يفعل ولا كيف يفكر، ولا كم المعلومات الرهيب الذي يخزنها عقله. الجميع كان يتكلم في أمور السياسة والدين والنفس والثقافة والمرأة ورجال الدين ورجال الفن.. مواضيع لا متناهية تبدأ أحدها ليقودك إلى غيره في دوامة آراء، منها الجيد المتميز وأغلبها سطحي متآكل.
كل من كان في تلك الجلسة كان يعمد إلى أن يظهر بمظهر المثقف الملم بجميع المواضيع، والذي لا يشق له غبار في المقارعة والحجاج، المنظر الأول صاحب الأدلة الدامغة والكلمة النهائية، أمر أشبه بالمناظرات التي كان يقوم بها علماء المسلمين حول إشكالية غسل وجه الرجل الأصلع في الوضوء، وهل يمسح جبهته فقط أم يصل بالماء لكامل صلعته؟ في حين كان العدو يغزوهم ويدبر لإجلائهم من منازلهم ومساجدهم. كنت أتأمل الوجوه والتعابير، والحنق يتطاير من وجوه البعض والسخرية تغزو ملامح البعض الآخر، وأغلبهم ممن أعرف لا تتجاوز ثقافته أخبار الفايسبوك وإشاعات المقاهي والمواقع الإخبارية الإلكترونية، ومن حين لآخر كنت أنظر إليه، لأرى كيف سيتصرف في وسط كل هذا اللغط !
كان هادئا، يرى ويسمع، يتأمل المتحدثين، ويبتسم لهذا وذاك، ويهز برأسه لذلك الذي انتفخت أوداجه من أجل فكرة تجاوز عمرها أربعة عشر قرنا، لم يتكلم ولم ينبس ببنت شفة، بل ظل طول الحديث يستمع، ويستمع، ويبتسم. كنت أعرف أنه إذا تكلم أبدع وأسمع وأقنع، وأن ثقافته مرتبة بشكل هائل، وأن لديه ما يستعرضه بشكل سلس ومذهل، لكنه آثر السكوت.
عندما انتهت تلك الجلسة وقمنا كل إلى حال سبيله، سألته: لماذا ظللت صامتا؟ ربما لو وضحت لفلان أن كلامه محض أوهام، أو ربما لو حاججت علان لأفهمته أن ما قاله لا يمت للعلم بصلة، لم آثرت الاستماع؟! أجابني بكل هدوء: لأن لا أحد طلب رأيي !
فببساطة فضل أن يلوذ بالصمت، وأن لا يستعرض معلوماته على الملأ، لأن لا أحد طلب منه ذلك، لم يسأله أحد إن كان متفقا أم لا، كل واحد كان يهدف إلى أن يتكلم هو فقط، وأن يسمعه الآخرون، لا يهمه رأي من أمامه، اقتنع أم لم يفعل، لا يهم.. ما يهم أن يتكلم هو وأن تشير له الأصابع بكونه صاحب رؤية وفهم، غَزَّالي عصره.
عندما يتكلم الإنسان كثيرا، يفقد جوهره، وتذبل شمعة تميزه، عندما يستعرض فكره أينما حل وارتحل، يفقد بريقه، ويفقد معه فكره، عندما لا ينفك في كل جلسة وكل لقاء يتغنى بما قرأه هنا وهناك، ويطبل بما جمعه من معلومات وبما تعلمه من تجارب، يخبو ضياؤه، ويسدل ستار ألمعيته.
ثقافتك لنفسك، لا لتعرضها تجارة رخيصة أمام الناس، ومعلوماتك لتبني بها فكرك، لا لتبني بها مكانة عند الناس. رأيك لك ما لم يطلبه منك أحد، وعلمك تقدمه لمن رغب به، وليس لكل مار صادفته في قطار تائه، تسترسل أمامه كل ما علمته ليمنحك ذلك شعور الأستاذية والتفوق.
مضى صديقي في طريقه، ومضى الآخرون لا يدركون أنهم كانوا برفقة عقل لامع وفكر متميز، فلا أحد رغب بالاستماع، كل طبل وغنى لنفسه، وكل تكلم ليثبت لنفسه أنه مثقف.. وسياسي محنك.