شوف تشوف

الرئيسية

اللاشعور والاستعارات.. وضربات المطرقة !

بدر الحمري
الفيلسوف وعالم اللسانيات الأمريكي جورج لايكوف لا يتفق مع الطبيب النفسي النمساوي سيغموند فرويد أبداً، ففي الوقت الذي يرى فيه فرويد أن اللاشعور هو أوسع منطقة من الشعور، والمحرك الأساسي لكل أفعالنا حتى ولو كانت في زمن كورونا، يزعق عليه جورج لايكوف مثل قطار جائح، مؤكداً أنّ الأزمات تنشط فيها التعبيرات الحربية بشكل ممتاز جداً، استعارات حربية ومجازات قتالية لا حصر لها، وخطابات تمتح من معين المعجم الحربيّ، تتسارع إلى آذان المتلقين من دون توقف؛ لتصبح الخطابات العمومية والتلفزيونية أشبه بالساحات الحربية التي نتنفس منها، أو نحيا بها، إنها طريقة «طبيعية» في عيشنا اليوم، ومركز دفاعاتنا الأمامية، قبل السلاح والدواء والكمامات.
لم يرض أب التحليل النفسي بما قاله أب الاستعارات الحديثة، فرد عليه هذا الأخير:
خذ على سبيل المثال الأفعال الكلامية والجمل الآتية التي تتكرر كل يوم آلاف المرات، إن لم أقل أكثر، وفي جميع أرجاء العالم، مثلا: إصابات جديدة، إصابات كورونا ترتفع، وفيات جديدة، حظر، حرب، فيروس قاتل، عدو، خطير، ارتفاع عدد الوفيات، حالة طوارئ، بلاغ، كورونا يهدد بزيادة عدد الوفيات، خسائر اقتصادية، هجمات بيولوجية.. إلخ… هذا معجم كاف ليبين لك يا فرويد أنّ لنا جحيما من الاستعارات الحربية أصبحنا نعيش بها، وفيها.. ونتنفسها كل حين، ولا شأن للاشعور بها، أو حتى لرغبات الهو الجاحد.. ولنظرات الأنا الأعلى القابع فوق الجميع، لا ينظر إلى أحد إلاّ وهو يحملُ سياطه معه !
لم يسلّم سيغموند فرويد بما قاله صديقه جورج لايكوف، وهكذا هي طبيعة أطباء النفس، مشاكسون.. يرون أنّ الجميع مرضى وعُصابيُّون.. إلاّ قليلا، وأن الحل الوحيد لمعرفة أسباب مرض كوفيد-19 هو البحث في خبايا النفس اللاشعورية، وفي الحكايات القديمة والنصوص السردية الميتة في الذاكرة.
ينتفض الطبيب فرويد قائلا:
لقد التقيتُ مع الرئيس الفرنسي ماكروون وأخبرني أن تلميذي المشاغب جاك لاكان عاد ليعتقدَ من جديد في نظريتي ويدعم ما أقول، من أن الفيروس الكورونيَّ متصل بلاشعورنا!
وفي لمح البصر يجيبه جورج لايكوف:
– أنا لا أتكلم من نفسي، أو تعلم ما قاله القادة السياسيون اليوم في معرض وصفهم للفيروس العالمي، وقد ذكرت رئيس فرنسا ماكرون، أو تعلمُ ماذا قال لشعبه في 16 مارس 2020 «نحن في حرب صِحية» ويقصد حربا ضد فيروس كورونا، هذه الجملة التي كررها أكثر من مرة في خطاب واحد، استعارة لشحذ همم الجمهورية، والتكرار في الدراسات البلاغية الحجاجية يفيد التأكيد والإقناع وعدم ترك فرصة للمتلقي من أن يختار مرة أخرى، أو حتى أن يفكّر في بدائل يمكنُ أن تكون ناجعة أكثر من لغة الحرب. وهي دعوة ضمنية وغير مباشرة إلى أن يصطف الشعب الفرنسي إلى جانب الرئيس، جيشاً مجنداً من أجل محاربة عدوَّ خفي!
وها هو نيتشه، الفيلسوف الألماني قادم من بعيد، بشاربه الكث والطويل، وعينيه الغائرتين، ومن دون تحية أو سلام يدخلُ في النقاش لينهيه كعادته:
في كل الأزمنة الموبوءة هناك علماء يشتغلون في الخفاء، وآخرون يعرفهم الجميع مثل نقيق الضفادع. في زمن الألم والموت، تظهرُ سواعد الرجال أكثر، وتصقلُ مرايا النفوس الطيبة، وتزداد الأمهات جمالا عن جمال، أما الأشباه فلا شأن لنا بهم هنا، خاصة في ظل تفريخ البلاهة، لا شُغل لهم غير النقد والحك وذر الرماد على أعين الحقيقة، وصناعة الأخبار الزائفة، مهددين بذلك أرواح الناس بالموت والمُصيبة. لكن مصيرهم معروف جداً !
الآن فهمتُ لماذا كان يقول نيتشه علينا أن نصنع الفلسفة بضربات مطرقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى