شوف تشوف

الرأي

اللاديني المتدين

محمد جميح

دارت، خلال السنوات الأخيرة، نقاشات واسعة حول قضايا متعددة لا يكاد يتوقف النقاش حولها في الدين والسياسة والعلاقة بينهما، ونقاشات حول الثيوقراطية والعلمانية والإيمان والإلحاد..

في النقاشات اتهم اللادينيون خصومهم المتدينين بأنهم يقولون في «يقينية عمياء» بوجود إله دون دليل ملموس، وقيل إن المتدينين أصحاب رؤية أحادية، وإنه ليس لهم باع في ممارسة التعددية السياسية والفكرية، وإنهم لا يعرفون معنى الحداثة الفكرية والفلسفية والثقافية، ولم يطلعوا على كتابات ما بعد الحداثة، وهذا سبب رئيسي لجمودهم وبقائهم متدينين.

ووصمت الأديان – كذلك- بأنها وراء الحروب والجرائم الكبرى في العالم، ونال الإسلام النصيب الأكبر من التهم الموجهة للأديان، واتهم بأنه وراء التخلف الذي يعيشه الشرق، وتم الحديث عن الدين البدوي والفكر السلفي، والإرهاب والتكفير و«التطرف الإسلامي»، وقيل إن المتدينين يريدون أن يعيدونا إلى عصر الجواري والحريم والسبي وركوب البعير والثوب القصير، وغيرها من التهم الأقرب إلى «فقه النكاية» منها إلى الحقيقة الموضوعية.

أما فريق من اللادينيين – وهم الملحدون – فقد برزوا في هيئة الواثق من عمق طرحه، وكانوا يرمون المؤمنين بالله بتهمة السذاجة الإيمانية، المتمثلة في الاعتقاد بوجود إله «لا يخضع للتجربة الحسية»، في حين أن هؤلاء الملحدين واقعون في «يقينية عمياء» نقيضة، تتركز في نفي وجود الإله الذي يريدون أن يخضعوه لتجارب الحس، مع أن الفكر الفلسفي الذي خاض في قضايا الميتافيزيقا يركز على المنهج العقلي (لا التجريب الحسي) في ما يخص القضايا الغيبية، وهو ما يجعل طريقة أولئك المنتفشين غرورا بموضوعيتهم، يقعون في شرك الخلط المنهجي الذي يريدون بموجبه رؤية الله، وهو مطلب البدائي الذي أراد أن يختصر الإله في تمثال من الحجر، أو الآخر الذي رفض الإيمان حتى يرى الله جهرة.

وبعيدا عن القضايا الإيمانية والغيبيات، ركزت الكثير من النقاشات حول التوظيف النفعي للأديان على يد المتدينين، واستهدف الإسلام بالقسط الأكبر من النقد الموجه في هذا الخصوص، واتهم المتدينون باستغلال الدين لأغراض متعددة، غير أن المفارقة العجيبة أن الأنظمة اللادينية ربما فاقت الحركات الدينية في التوظيف النفعي للأديان. يتضح ذلك من خلال توظيف أنظمة علمانية كثيرة للشعور الديني لدى الجمهور في المعارك السياسية والعسكرية، على اعتبار أنه «لا ملحدون في الخنادق»، وأن القتال يتطلب عقيدة دينية لا سياسية، إذ إن لحظة الإقبال على الموت تعد لحظة فزع كبير، يرتجف معها إيمان كثير من الملحدين بالعدم، ويحضر الإيمان بالله، وهي اللحظة التي جاء في القرآن أن فرعون قال فيها «آمنت».

ويعد جوزيف ستالين الذي أصبح ملحدا مع بلوغه العشرين من العمر أكبر الأمثلة على التوظيف النفعي للدين، حيث وقف يحرض المواطنين السوفيات على «الدفاع عن دينهم في وجه النازية»، التي غزت روسيا في الحرب العالمية الثانية.

هذا – إذن- هو «اللادين» الذي يوظف الدين توظيفا نفعيا، وهذه هي العلمانية التي تسلك سلوكا انتهازيا يقترب من الممارسة الثيوقراطية، وهذه هي السياسة التي تدخلت في الدين، ثم انبرت تتهم الدين بالتدخل في شؤونها.

ولا ينبغي -هنا- إغفال الإشارة إلى ما يردده كثير من اللادينيين أو الملحدين من أن الأديان شر مطلق، ويستدلون على ذلك بفظائع تاريخية ارتكبت «بسبب الأديان»، مثل محاكم التفتيش والحروب الصليبية ضد المسلمين، ويضاف إلى ذلك الهجمات الإرهابية المعاصرة وغيرها، وهي الكوارث التي تحتم – حسب المتطرفين اللادينيين- الانتقال إلى «إلحاد الدولة» للتخلص من هذا الإرهاب الديني.

ومع ذلك فإن التاريخ يذكر أن «دولة الإلحاد» مارست فظائع راح ضحيتها أكثر مما ذهب من ضحايا لمحاكم التفتيش والحروب الصليبية والهجمات الإرهابية مجتمعة، وجاء الاتحاد السوفياتي ومارس ستالين إرهابا غير مسبوق.

كان ريتشارد دوكنز يرى أن الفظائع التي ارتكبها ستالين لم ترتكب لأنه ملحد، فيما حدث الإرهاب الديني بدافع العقيدة الدينية للإرهابيين، أو بعبارة أخرى يرى دوكنز أن إرهاب الملحدين لم يكن بسبب الإلحاد، فيما إرهاب المتدينين كان بسبب الدين. والواقع أن ما رآه دوكنز كدواع دينية للإرهاب لم تكن أكثر من ذرائع لا دوافع لهذا الإرهاب، فالدوافع الحقيقية للإرهاب ليست دينية، ومعظم الجرائم تمت بدوافع مختلفة، وإنما أقحم الدين للتغطية على الدوافع الحقيقية للجريمة، ولو كان إرهاب بعض المتطرفين المسلمين مدفوعا بالعقيدة الإسلامية، فلماذا لا يكون مليار ونصف المليار ممن يعتنقون هذه العقيدة إرهابيين، ولماذا لا يقوم بمثل هذه الأعمال إلا مجاميع تمثل نسبة لا تذكر من غالبية المسلمين، فيما تدينها تلك الغالبية؟

لا يمكن – إذن- التصديق بأن الجرائم التي تمت باسم الأديان كانت بدوافع دينية، إلا إذا صدقنا أن جورج دبليو بوش غزا العراق استجابة لتعليمات المسيح، الذي أمره بخوض «حربه الصليبية» المزعومة، وأنه لم يقم بالغزو لغرض السيطرة على مقدرات البلاد.

وأكثر الجرائم بشاعة في العالم قامت بها أنظمة علمانية لا دينية، وإن حاولت استدعاء الدين في كثير من المناسبات، إلا إذا اعتبرنا أن الحرب العالمية الثانية الأفظع في التاريخ البشري، خاضتها أنظمة ثيوقراطية قاتلت تحت راية الله.

 

نافذة:

يردد كثير من اللادينيين أو الملحدين أن الأديان شر مطلق ويستدلون على ذلك بفظائع تاريخية ارتكبت «بسبب الأديان»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى