شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الكُتب صارت تُقرأ بالأذن..

لو عاش نجيب محفوظ بيننا أعواما أخرى حتى يصله خبر احتلال روايته “أولاد حارتنا” صدارة الكتب “المسموعة” باللغة العربية حول العالم، لربما طار عقله.

لن يستوعب أي كاتب من الجيل القديم معنى أن تتحول روايته التي رقنها أو خطها فوق الورق أو خاضها ضد نفسه، إلى ملف مسموع يُنصت إليه الناس قبل النوم أو أثناء التوجه إلى العمل.

الكُتب المسموعة موضة العام الماضي بلا منازع. تقنية بدأت قبل عشر سنوات تقريبا في الانتشار داخل العالم العربي. وبدأت بعض المنصات، داخل مصر خصوصا، في تحويل بعض الأعمال الأدبية إلى نصوص مسموعة، اعتمادا على أصوات احترافية ومُدربة، للحفاظ على “النَّفس الروائي”.

استهجان كبير قوبلت به هذه التكنولوجيا الجديدة. ما معنى أن تُنصت إلى كتاب من الغلاف إلى الغلاف، وتقسم الاستماع إلى مراحل، أو دفعة واحدة “هكذا”، كما لو أن الأمر يتعلق بلائحة من الأغاني الطويلة تصدح “لوحدها” داخل مكان عام.

تحويل الكُتب إلى ملفات صوتية، وعرضها في منصات عالمية تقدم خدمة نشر التسجيلات، قد يكون آخر مسمار في نعش تجارة الكتب خصوصا داخل الدول التي تشهد عزوفا كبيرا عن القراءة.

لكن الواقع أن الإحصائيات التي صدرت مع بداية هذا العام الجديد، تؤكد أن تقنية الاستماع للكتب، والروايات خصوصا، يجعل بعض المستهلكين يتجهون إلى شراء نسخ رقمية للاحتفاظ بها بعد الانتهاء من سماع الرواية.

رواية من الحجم المتوسط، يمكن أن تُسجل في أربع أو خمس ساعات. الأمر يعود إلى مدى سرعة حنجرة “القارئ الوحيد” الذي يُحول العمل الروائي إلى “حجّاية” مسموعة.

“أولاد حارتنا”، حسب ما أعلنته واحدة من أولى المنصات المتخصصة في هذه التقنية، تربعت على عرش مبيعات الكتب على الأنترنت، تليها رائعة غسان كنفاني، “رجال في الشمس”، ثم “بين القصرين” لنجيب محفوظ، و”رجال الحرافيش”، لنجيب محفوظ مرة أخرى!

Wrapped up AudioBook، هو اسم المنصة التي أعلنت عن أرقام مفصلة، تستحق فعلا أن تتحول إلى دراسة جادة لتشخيص أعطاب سوق الكتاب في العالم العربي وما ينتظره من تحديات.

الكُتاب الكلاسيكيون قد يعتبرون تحويل رواياتهم إلى أعمال “مسموعة” جريمة كاملة الأركان، وقد يصابون بجلطة إن سمعوا أن القارئ لم يعد قارئا، وأن الرواية قد تُستهلك مسموعة قبل النوم.

طقس القراءة، باختلاف الحضارات والمعتقدات، كان ولا يزال واحدا من أرقى السلوكات التي مارسها البشر، وأحد أعقد السلوكيات في التواصل. طرف يكتب وطرف آخر يقرأ. أما السماع فقد بدأ مع ثورة التكنولوجيا، وتعزز مع اختراع الراديو، ولم يُزل عن القراءة وقارها.

الجيل الجديد من الشباب، يُقبل على تكنولوجيا الكتب المسموعة، حول العالم. وهذا أمر تؤكده الأرقام، ولن يحجبه الغربال. وأغلب الأعمال التي تُستهلك عبر الأذن، هي الأعمال الكلاسيكية والروائع العالمية، تليها الكتب المتخصصة. بعض الطلاب لا يجدون الوقت الكافي لقراءة عدد من المراجع العلمية، فيلجؤون إلى التقنية الرقمية ويُنصتون لمحتوى هذه المراجع “مسموعا”، وهم في طريقهم إلى العمل أثناء قيادة السيارة أو أثناء ممارسة الرياضة، ربحا للوقت!

“سماع” محتوى الكتب يبقى أهون بكثير من تقنيات الغش المقنن التي تسمى زورا، تعاملا مع الذكاء الاصطناعي.

الاستماع إلى محتوى كتاب معين، أهون بكثير من عدم بذل أي مجهود نهائيا، وتوجيه سؤال وحيد إلى السيد “شات جي بي تي” الذي يسكن هواتف الجميع، عن محتوى كتاب معين، لكي يأتيك الملخص في جزء من الثانية.

قبل أن تُخترع جوقة العالم الرقمي. كان النصابون والمدعون في أوساط المثقفين يعتمدون على “الجبهة” وينتظرون موت الأدباء والمفكرين لكي يحاضروا في كُتبهم ويفسرونها ويكتبون عنها دون أن يكونوا قد قرؤوها في حياتهم. لكن الآن، مع كل ما يقع حولنا من تطورات، لم يعد أحد ينتظر موت المثقف، بل يتحدثون عنه في حضرته، ويحللون كتبه، حتى التي لم تصدر بعدُ، المهم أن يعرفها السيد “شات جي بي تي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى