(لوحة بعد الزلزال/ للرسامة الإنجليزية صوفي أندرسون)
إذا كان الأدب في عمومه يعنى بالحياة الإنسانية في كلّ مظاهرها الاجتماعية والسياسية والفكرية… فإنّه يهتم كذلك بكلّ ما يعترض حياة الإنسان من كوارث طبيعية، كالزلازل والإعصارات المهولة، والفيضانات الجارفة والمجاعات القاتلة والبراكين المتفجرة… إضافة إلى الجوائح والأوبئة القاتلة. لكن من الملاحظ أن المكتبة العربية ما زالت تعدّ فقيرة في هذا المجال رغم أهمية أدب الكوارث الطبيعية ودوره الكبير في إثارة إشكالات معرفية وجدل فلسفي عميق. فعلى سبيل المثال زلزال لشبونة في البرتغال سنة 1755، الذي كان زلزالا مدمرا أتى على كلّ المباني وتسبب في موت الآلاف أثناء الاحتفال بعيد القديسين ما أثار جدلا فلسفيا حادا بين مفكري عصر الأنوار، ومن وحي هذه الكارثة كتب فولتير قصيدته «مأساة لشبونة» وأيضا في ما بعد روايته «كانديد». فهذا الزلزال الخطير لم تهتز له فقط الأرض في العديد من المناطق الساحلية في شبه الجزيرة الإيبيرية… بل اهتزت له أيضا أركان الفكر الإنساني الذي عمّ أوروبا بأكملها في عصر الأنوار. وإذا كان الأدب يوظف الكوارث الطبيعية كالزلازل إطارا فنيا أو ينقل التجربة الإنسانية في مواجهة الخطر، فإنّ العلم، من خلال أبحاثه ودراساته، يكشف لنا حقائق هذه الظواهر وسبل مواجهتها والوعي أكثر بمخاطرها.
إعداد وتقديم: سعيد الباز
هاروكي موراكامي.. أطباق كوشيرو الطائرة
خمسة أيام كاملة قضتها أمام التليفزيون، محملقة في حطام البنوك والمستشفيات، وشوارع كاملة من متاجر تتصاعد منها النار، وخطوط القطارات السريعة الممزقة. لم تنطق كلمة. بقي فمها مزموما، وهي غائصة في وسائد الأريكة، لا ترد حتى على كومورا حينما يكلمها. لا تهز رأسها، ولا تطرق برأسها. بل إن كومورا لم يكن يعرف إن كان صوته حينما يتكلم ينفذ إليها.
تنتمي زوجة (كومورا) إلى منطقة في الشمال من ياماجاتا، وفي حدود ما يعرفه، لم يكن لها أصدقاء أو أقارب قد يكونون تضرروا في كوبي. ومع ذلك بقيت مغروسة أمام التليفزيون من الصباح إلى الليل. فكان كومورا حينما يستيقظ يجهز لنفسه التوست والقهوة ويتوجه إلى العمل. ويعدّ لنفسه، عند عودته إلى البيت في المساء، وجبة سريعة مما يعثر عليه في الثلاجة ويأكله وحده. وتكون هي لا تزال محملقة في النشرة المسائية حينما يتوجه إلى السرير. ولم تكن، في وجوده على الأقل، تأكل أو تشرب، بل ولم تذهب مرة إلى الحمام. كان يحيط بها جدار حجري من الصمت، توقف كومورا عن محاولة النفاذ منه.
وفي اليوم السادس، عندما رجع من عمله إلى البيت مساء الأحد، كانت زوجته قد اختفت.
… ولكن الرسالة التي تركتها له زوجته بعد خمسة أيام من الزلزال كانت مختلفة: فقد كتبت تقول له «لن أرجع أبدا» ومضت فشرحت ببساطة ووضوح لماذا لم تعد تريد أن تعيش مع كومورا. كتبت «المشكلة أنك لا تمنحني أبدا أي شيء. أو لمزيد من الدقة، أنت لا يوجد بداخلك ما يمكن أن تعطيه لي. أنت طيب وحنون ووسيم، ولكن الحياة معك أشبه بالحياة مع الهواء. وهذه ليست غلطتك. هناك الكثير من النساء اللاتي سيقعن في غرامك. لكن من فضلك لا تتصل بي. وتخلص من الأشياء التي أتركها خلفي».
… بعد فترة قصيرة من إرساله أوراق الطلاق، طلب كومورا إجازة من عمله لمدة أسبوع. ففبراير شهر شديد البطء، وكان بالفعل قد حكى لرئيسه ما يجري في حياته. فلم يصعب عليه الحصول على الإجازة.
… ترك كومورا البيت… كانت الطائرة مزدحمة بأكثر كثيرا مما توقع، فتساءل: ما الذي يجعل كل أولئك الناس يسافرون من طوكيو إلى كوشيرو في منتصف الشتاء؟
كانت صحيفة الصباح ممتلئة بتقارير الزلزال. قرأها في الطائرة من البداية إلى النهاية. كان عدد الموتى يرتفع. ومناطق كثيرة كانت لا تزال محرومة من الماء والكهرباء، وعدد لا حصر له من الناس فقدوا بيوتهم. كل موضوع في الصحيفة كان يحتوي مأساة جديدة، ولكن كل تلك المآسي بدت لكوموروا خالية من العمق. كان ما بعد الزلزال يبدو بالنسبة له أشبه بصدى خافت رتيب. كان الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوليه أي تفكير جاد هو رحيل زوجته.
ولما تعب من التفكير في زوجته وتتبع خيوط ما جرى أغمض ونعس. ولما صحا عاد يفكر في زوجته من جديد. لماذا كانت تتابع أخبار الزلزال بكل ذلك التوتر، من الصباح إلى الليل، دونما أكل أو نوم؟ ما الذي رأته ولم يره؟
(القصة مستوحاة من زلزال ضرب كوبي في اليابان)
ترجمة أحمد شافعي/ عن مدونته «قراءات»
ريبر هبون.. الزلزال
يكتب الكاتب السوري الكردي ريبر هبون عن هول الزلزال الذي أصاب الشمال السوري الذي يعاني أصلا من سيطرة الفصائل المتطرفة وممارساتها غير الإنسانية ممّا جعل المشهد يزداد تفاقما ويزداد حدّة: «لوهلة اهتزت الأرض به وأولاده، صارت الجدران كقطع البسكويت، كشّرت الطبيعة عن مخالبها، حلّ الغبار ليخنق الأنفاس، في مدينة باتت بؤرة أشباح آدمية، موتى واقفين على أشلائهم في طوابير، أسر حلّت محلّ أسر، بمشيئة الفصائل المتطرفة وولاة نعمتها، حيث استقدمت عوائلها وأجبرت السكان الأصليين على ترك منازلهم أو دفع الإتاوة عوضا عن ذلك، وبعض من منازل احتكرها قادة بعض الفصائل، أبقوا على بعض النساء والقاصرات، بعد أن كانوا قد تناوبوا في اغتصابهن، وأحلّ لهم أن يفعلوا ذلك عن طريق فتاوى من بعض الشيوخ طويلي اللحى، أو ليسوا حراسا ووكلاء للدين على الأرض ! حلّت لهم وفق ذلك ملكات يمينهم، يؤمنون أنّ السبايا وعائلات الكفّار حسب وصفهم حرث مشاع لأعضائهم الواقفة كالخوازيق العثمانية، وقد نسوا ترهات الثورة السورية وإسقاط النظام وبات مبلغ همهم جني المال وممارسة الجنس حتّى مع بغال القرية التي لم تسلم منهم، خصوصا بعد قطع الراتب من قبل أمر أصدره الوالي، حيث راحوا يقطعون أشجار الزيتون وجعلوا من خشبها حطبا فتحوّل بعضهم لحطابين، والبعض الآخر لتجار آثار، والآخر يأخذون محاصيل الزيتون عنوة ليعصروها ويستخرجوا زيتها ويبيعوها عن طريق تركيا إلى كافة دول الاتحاد الأوروبي، ألسنة البؤساء تلهج بموت سريع يخلّصهم مما هم فيه، الألسنة التي تهتز وجلا وحزنا تتمنى صاعقة تخسف بالأرض وتحيلها إلى يباب، أو طوفانا يغسل الأرض من ظلم الأنجاس ورجسهم.
لم يدرك (أبوبروسك) بأنّ الله سيستجيب لدعائه بهذه السرعة لغاية انتهائه من صلاة الفجر، حيث يقيم في ذلك الطابق الأرضي الذي تم البناء فوقه، شعر أنّ الجدران تهتزّ، تتصدع ومن ثم تتأهب للانهيار، لم يدر لأيّ ولد من أولاده يمد يده، الرعب في كل مكان، دعاؤه ارتدّ عليه، وذاك العقاب الإلهي شمل الجميع بلا استثناء، قالها في قرارة أعماقه، موت المساكين رحمة من الله عليهم، وموت الظالمين عقاب لهم، وفي الحالتين يتساوى الجميع أمام الموت، في النتيجة خرج (أبوبروسك) وهو يعرج دامي الجبين ممسكا ببعض من أشلاء ابنه ذي الأعوام الخمسة، لا يتوقف عن العويل والأنين، وما زال الاهتزاز القوي مستمرا والأبنية تتساقط كالمكعبات، هنا (جنديرس) المدينة التي يعيش فيها أكثر من 100 آلف بشري، باتت اليوم مدينة تعاف الأشباح السكن فيها، لم يعد (أبوبروسك) يعي حقيقة ما جرى كيف نجا من الموت، أولاده الثلاثة جثث هامدة بلا حراك كانوا قبل دقائق نائمين معا في غرفة وحيدة ثم ما لبثوا صرعى تحت الركام، البناء الذي صمم على عجل، وتُرك للرياح، الأمطار والثلوج تلوكه بردا كعلكة رديئة، ولديه ابنته البكر، سجينة في عفرين، يملك (أبوبروسك) أرضا واسعة تمتلئ بأشجار الزيتون، الرمان والسرو المحاذية لتل (جنديرس) الأثري الواقع في الجهة الجنوبية من المدينة، حيث أقامت الفصائل المتطرفة الحدّ على الأشجار فقطعتها من جذورها، عندما عجز أصحابها عن دفع الإتاوة الباهظة المفروضة عليهم، تساوت الأبنية المتساقطة بالأرض، الركام في كلّ جهة، أصوات الصراخ في كل ركن من ذلك الحطام الواسع، تتسابق الحشرجات في محاولة يائسة في الإشارة إلى موقع أصحابها ممن علقوا وينازعون الموت، الكهرباء مقطوعة بالأصل، الظلام في كلّ مكان، فرق الإنقاذ تعاني، لقد تحوّلت الأبنية المهدّمة إلى أماكن أشبه بالأثرية، مكتظة بالجثث والجرحى والباحثين عن مخرج…»
يوسف القعيد.. أربع وعشرون ساعة فقط
… اهتزاز خفيف يصيب الشقة. أقصد البيت الذي أعيش فيه وأسميه الشقة. النجفة المعلقة في السقف اهتزت. أوشكت أن تكمل نصف الدائرة. وكوب الشاي الفارغ الذي كان أمامي وقع في الصينية. والغسيل القليل المكوّم على حافة الكنبة التي بجواري، وقع على الأرض.
كنت بين اليقظة والنوم، قلت لنفسي: ربما كانت أحلاما، من الجائز أن تكون هواجس الوحدة… كلّ شيء جائز. لم أتوقف أمام الأشياء التي وقعت. قلت لنفسي «بعدين» وهل لدي ما يتطلب منّي عمله بسرعة. الزمن براح ولا نهاية له. وعندما يكون أمامي أيّ عمل أفرح لأني ضمنت قضاء وقتي فيه، أكثر ما أخاف منه الوقت، ذلك أنني لا أعرف ماذا أفعل به. خاصة بعد أن جرى لي ما جرى.
أنا متأكدة أنني سمعت صياح ديك في عشة الفراخ التي في الجنينة الخلفية، لكنّي تذكرت أنّ الوقت ليس الفجر. وتناهى إلى سمعي نونوة قطة، مع أنّ رائحة اللحم أو السمك أو الدجاج لم تعد تخرج من تحت عتبات أبواب البيوت ولا من شبابيك المطابخ منذ زمن مضى، ومن هذه البيوت بيتنا. وهذه الروائح راحت وراح معها زمانها.
رنّ في أذني نباح كلب من الجنينة الأمامية للبيت، رغم أنّ الدنيا لم تليل بعد، وضوء النهار يرشّ البلد، والكلاب تنبح على الغريب في الليل أكثر من النهار. عندما تكررت هذه الأصوات تشاءمت. فهذه المخلوقات البكماء ترى ما لا نستطيع رؤيته، وتحاول أن تنبهنا نحن الذين لنا ألسنة، ولكن بلا بصيرة. تقول لنا، كل بطريقته الخاصة التي خلق بها وقادر على القيام بها، إنّ هناك خطرا في الطريق إلينا، قلت في نفسي: اللهم اجعله خيرا.
… من وراء الباب جاءني صوت صبي: زلزال يا خالتي.
لم يقل غيرهما وجرى مبتعدا عن باب البيت الذي هو باب الشقة…
زلزلة؟ سألت نفسي. هل وصلت التخاريف بالناس إلى هذا الحدّ؟
اتّجهت إلى دولابي، لأغيّر ملابسي قبل الخروج إلى الشارع. حتّى هذه اللحظة، كان بداخلي أمل أن يكون ما سمعته ورأيته غير حقيقي. نكتة أم ملعوب أو مقلب؟ سأعرف ما حصل في الشارع، ثمّ أقرر ماذا سأفعل. أليس من الجائز أن يكون الولد الذي دق الباب حرامي ابن حرامية؟ وأنّ ما فعله حيلة جديدة حتّى أطلع ملهوفة وأترك البيت مفتوحا، ويدخلون يأخذون ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وأنّه لا زلزال ولا يحزنون.
… خرجت. رددت الباب ورائي. أدرت فيه المفتاح، خرجت من الحارة الأولى إلى الثانية. الثالثة ثابتة… قلت لنفسي: إذن ما سمعته مرتين صحيح، وأنّ الذي خبط الباب واحد من أبناء الجيران…
شاهر جمال آغا.. الزلزال جزء من حياة الأرض
شاهر جمال آغا (1939-2020) جغرافي سوري اهتمّ بظاهرة الزلزال، خاصة في كتابه «الزلازل حقيقتها وآثارها»، يقدّم لنا هنا تجربته الشخصية والعلمية مع عالم الزلازل: «السلام عليكم… السلام عليكم… ومن وراء نظاراته السميكة نظر إليّ باندهاش وبصرامة، وكأنّه يقول ألا ترى أنني أقرأ في كتاب الله. كان ذلك في مايو من عام 1967 وبعد أن غادرت وزملائي من كلية الجغرافية في جامعة لينينغراد إلى صحراء قراقوم التركمانستانية. وكان لقائي مع الشيخ الطاعن السن هذا في ضاحية لمدينة عشقباد، إذ كان يجلس أمام رسم قبر قد سُوي على الأرض تقريبا. وكانت تحيط به بقايا مسجد متهدم تزينها نقوش فسيفسائية بديعة فرقتها شقوق عميقة، أخذت تتسع سنة بعد أخرى. لقد كان مسجدا معروفا لدى سكان عشقباد ولكن زلزال 1948 قد أحاله إلى ركام. وهذه أوّل مرة أتعرّف التخريب الذي تخلّفه الهزات الأرضية، ومضت بعض الأيام وغادرنا إلى مدينة طشقند، وكان الوقت ضحى وكنت مستلقيا على سرير في بيت الطلبة، وإذ بجدران الغرفة ترتجف بعنف ثم تميل إلى الأمام وترتد إلى موضعها. وفي اللحظة نفسها صدحت أصوات الأواني المنزلية المتساقطة في غرف الطلبة بعنف ولم ينقصها علوا سوى صيحات الطلبة وبلغات مختلفة. ولقد هرعوا من غرفهم فارين وبمظاهر شتّى يدعو بعضها للأسى. شعرت بخطورة الموقف فيممت بهدوء شطر المخرج، وفي الشارع رأيت الناس في هرج ومرج وهلع بالغ، إذ إنهم لم ينسوا بعد زلزال طشقند المدمر الذي وقع قبل عام فقط.
مرّت سنوات كثيرة وجاء عام 1982 وكنت أدرس في جامعة صنعاء، فارتجفت المدينة برفق في شهر يناير تحت لمسات الأمواج الاهتزازية لزلزال ذمار غير البعيد عن العاصمة. لقد تسنى لي مع طلبة قسم الجغرافية زيارة منطقة الزلزال. وكان مركز الزلزال قريبا من مدينة ذمار ولم يكن عميقا ودائرة تدميره ليست واسعة مما يشير إلى طابعه السطحي. ولكن آثاره التدميرية لم تكن هينة. مررت ببعض المدن الصغيرة والقرى الواقعة في دائرة التدمير العظمى وكان المشهد مريعا. لم أجد بيتا واحدا سليما تقريبا. فالهدم كامل أحيانا وجزئي في أحيان أخرى. وكثيرا ما قذف بالسقف أو بجدار أو أكثر. كما أن الشقوق تملأ الجدران وذات اتجاهات وزوايا معينة وملأت شظايا الزجاج الأرض وتناثر بعضها في الشوارع. لقد ذكرني منظر التدمير بمدن الحروب المخربة مثل برلين.
الزلزال جزء من حياة الأرض وجزء مأساوي من تاريخ البشر ولا يمرّ عام إلّا ونسمع بعشرات الزلازل وبعضها قوي ومدمر كزلزال أرمينيا في عام 1989 وزلزال شمال غرب إيران 1990. ولقد ذهب ضحيتها الآلاف ودمرت مراكز بشرية بكاملها. ولقد تفحصت المكتبة العربية في المكتبات فلم أجد سوى النزر اليسير والقديم عن الزلازل، فأحببت أن أسهم بتقديم شيء ما عن هذه الظاهرة الطبيعية التي شاركت بفعالية في رسم تاريخ الأرض الطبيعي، وهي المنوط بها تغيير معالم الأرض في يوم من الأيام. ويجب أن أشير إلى أنّ وطننا العربي يقع في نطاقين زلزاليين نشيطين هما البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.
محمد خير الدين.. أكادير
حلّ محمد خير الدين بأكادير سنة 1961 عقب الزلزال الرهيب الذي شهدته المدينة، موظفا في الضمان الاجتماعي مكلفا بإحصاء السكان والمباني المنكوبة. كانت ثمرةَ هذه المهمة روايته الأولى التي كانت تحمل عنوان «التحقيق» لكن دار النشر العريقة «لوسوي» فضلت أن يكون عنوان الرواية نسبة إلى مكان أحداثها. هذه الرواية، التي حملت كل تصورات خير الدين حول الكتابة بتحطيم كل الحدود بين الأجناس الأدبية وبلغته الشاعرية شديدة الحدّة وإيقاعها المتسارع وتعدد أشكالها الأسلوبية، جعلت منها باكورة أعماله التي فتحت له الأبواب، خاصة في الوسط الأدبي الفرنسي. من مقاطع الرواية الدالة: «هذه المدينة أصبحت الآن تنتمي إلى الصحراء المجاورة، وأن الرجال سيكون بمقدورهم أن يبتنوا لهم مساكن فوق الجبل، على مقربة من هذا المكان. لي خالة تعيش في الجبل، على مقربة من هذا المكان، وربما تعيش هناك أمي أيضاً. لن أذهب لرؤية خالتي أو أمي. لن أبرح بعد هذا المكان. لا يمكنني أن أبدأ بالعمل على الفور. فلا أعرف ما هي مهمتي. لي مكتب، هو مستودع عتيق، وجدت فيه أربعة كراس، وطاولتين، وشباكاً مسيجاً، وملفات، وآلة كاتبة وعدادة، وصورة للملك المتوفى وأخرى للملك الحالي، ومكنسة، وسطلاً من الزنك، وإسفنجة من نوع سبونتكس، ومنفضة ريش، ومسدساً من نوع M.A.B عيار 7,65 ملمتر، و38 رصاصة، إلخ. مكتبي يوجد وسط أرض بور تتناثر فيه شقاف القناني والفضلات. ها كم كيف هو على وجه الإجمال : إنه على هيأة مواز بطول 8 أمتار وعرض 3,5 وعلو 3 أمتار، ليس فيه باب مزججة بل ستار معدني شبه صدئ، يصعب كثيراً خفضه، فسخرت شاوشاً ليفعل. ويكون عليه أيضاً أن يتلقى كل ملتمس يرد عليه، وأن يكون حاضراً عندما أغيب أنا، قلت له إنني ليس عندي توقيت معلوم، وإنه يتفق لي أن أترك العمل معلقاً وإن عليه أن يكون حاضراً على الدوام…» ويضيف كذلك: «ذات صباح تلقيت الأمر التالي: نظراً لخطورة الوضعية، ندعوك أن تهيئ منذ الآن لتهجير سكان مدينتك. فيلزم أن تجعلوهم في حمى من أي خطر. وسنعلمك في الوقت المناسب. ستكون إلى جانبك السلطات المحلية التي سننقل إليها نسخة من هذه المذكرة. قلت إن المدينة قد دُكت، لكنني لم أذكر بأي قدر. بنايات شديدة الغموض تطل على الصخرة المتآكلة والبحر تليق بألبوم لعالم للآثار. وفي بعض الأنحاء بيوت متفرقة قد أعيد ترميمها. فما عاد فيها أثر لصدع أو شق! لكنني أشعر بوضوح بوجود جثة للمدينة تحت الأرض. تسلح الجنود بجرافاتهم وشاحناتهم وفؤوسهم، وقاموا بدك بقايا حائط كانت تخدش النظر. وأشم كذلك انبعاث روائح مقلقة، روائح جرذان نافقة، وأعضاء بشرية متفسخة، وعفونة الجوارير المنبعجة، ورائحة المرسى والشاطئ اللذين ما عاد يقبل عليهما أحد، وقد تراكمت عليهما القشريات والأسماك الميتة! لكنني صرت من طول وجودي في هذا المكان أتعود هذا الهواء الجديد. صرت على نحو غامض أنا أيضاً تفوح مني مثل العفونة التي في ذلك الجو، وانتهى بي الأمر إلى أن صرت إذا اضطجعت أو جلست أشعر بالتخدر، لكنني لم ألبث منتظراً، ونهضت ملسوع الخياشيم بتلك الرائحة الزاكمة».
الزلزال.. شهادات حية
تحكي الروائية التركية أليف شفق في نص يحمل عنوان «صيف في المدينة» أحداث زلزال إسطنبول سنة 1999: (كانت ذروة الصيف في إسطنبول، مزيجاً من الحرارة والرطوبة، خانقاً جداً، حتى أننا أصبحنا جميعاً عرضة للأرق: القطط في الشوارع، والناس في منازلهم، وطيور النورس تطفو على سطوح المنازل. في الليلة نفسها، لفحنا نسيم عذب كما لو أنه هدية غير متوقعة من السماء. أخيراً تمكنّا من النوم، القطط والبشر وطيور النورس. ولكن في تمام الساعة الثالثة صباحاً، بدأت هزة في البداية، ثم قعقعة مروعة تتصاعد من باطن الأرض، ليحدث الزلزال… قضينا تلك الليلة في الشوارع، نستمع إلى الراديو ونحاول فهم حجم الكارثة. لم نكن نعرف آنذاك أن أكثر من 17000 شخص قد لقوا حتفهم في تلك الثواني القليلة، وأن ما يصل إلى 50 ألفاً قد أصيبوا). وتضيف في الأخير: (لن أنسى أبداً صيف 1999 في إسطنبول. المعاناة الإنسانية الهائلة. مشاعر التعاضد والصداقة غير المتوقعة في مواجهة الموت والدمار. استغرق الأمر بضعة أيام فقط للعودة إلى «الوضع الطبيعي»، العودة إلى طرقنا القديمة وتحيزاتنا، واستمرت المدينة في النمو والنمو كأنها لم تتعلم شيئاً).
أمّا الشهادة الثانية فهي لدومنيك ستروس-كان Dominique Strauss-Kahn، السياسي والخبير المالي والاقتصادي الفرنسي، الواردة في مذكراته «ضدّ الاستسلام» في آخر مناصبه الرفيعة مديرا لصندوق النقد الدولي، وكانت أوّل قراراته عقب زلزال هايتي المدمر سنة 2010 تقديم معونة عاجلة بمائة مليون دولار. البعض فسّر قراره بجرأة المدير الجديد، والبعض الآخر بالبعد الإنساني في سياسته الاقتصادية. الحقيقة بعيدة عن ذلك، فستروس-كان من منكوبي زلزال أكادير. لقد عاش الطفل دومنيك أجمل فترات حياته في أكادير، يدرس في مدرسة تالبرجت المختلطة الأعراق سنوات الخمسينات، يقيم في العمارة ذات الطوابق السبعة قبالة الميناء. والده جلبير، المستشار القانوني والمالي، مكتبه في المدينة الجديدة أعماله مزدهرة هو الفرنسي من ديانة يهودية له مكانة مهمة في المدينة التي تشهد تقدما متناميا، وتعده بالثراء، جلبير ستروس مثقف وقارئ نهم خصوصا في المجال الفلسفي، وقد كانت له كتابات فلسفية في بداياته لولا انصرافه إلى الأعمال والاستثمار، كانت له ميولات يسارية. الأمّ جاكلين فلّوس من أصول يهودية تونسية، صحافية تكتب في الجرائد المغربية والفرنسية. ليلة الزلزال كانت عائلة ستروس على موعد مع القدر، لقد كانت مدعوة على العشاء لدى أسرة فرنسية على مبعدة سبعة كيلومترات ما بين أكادير وإنزكان، في طريق العودة وفي السيارة شاهد دومنيك ذو الثانية عشر تقريبا من عمره الأرض وهي ترتجّ والغبار الذي يحجب الرؤية. لقد كانت لحظة سديم كما قال في كتابه «مذكرات ضدّ الاستسلام»، حينها يتابع القول: «انقلبت حياتي رأسا على عقب، ودّعت حياة الحلم في أكادير، وأقبلت الحياة القاسية». شهورا تحت الخيام وسط العديد من المنكوبين، ليكتشف الأب بأنّه فقد كلّ شيء، وكلّ أعماله وحساباته كانت مع شركات ومصانع مطمورة تحت أرض أكادير الخربة. وبفضل مساعدات من هنا وهناك عادت الأسرة إلى موناكو بفرنسا خالية الوفاض لتعرف شظف العيش والمعاناة. ظلّ دومنيك ستروس-كان يحكي لأصحابه أنّ الرؤى المفزعة لزلزال أكادير تراوده في النوم… وأنّ اضطرابات نفسية صاحبته طيلة حياته، يقول في مذكراته تلك إن لديه في حياته يوما واحدا هو 29 فبراير من كلّ سنة يكتمل فيها الشهر، وفي المقابل كانت استيهاماته الجانحة إلى رغد العيش وطلب المتعة والإقبال عليها مستمدة من هذه الطفولة الهانئة في أكادير خلال الخمسينات. لذلك التفت الكاتب والمحلل الصحافي لويس دو ميراندا إلى هذا الحدث الرئيسي في حياة ستروس-كان: «هذا الحدث مفتاح لفهم شخصيته وعذاباته الشخصية».
في الأخير يقدم لنا الروائي التركي أورهان باموق مشاهداته أثناء الزلزال الذي ضرب تركيا في مقال له في جريدة «ذي نيويورك تايمز» بقوله: «يُعدّ هذا أكبر زلزال يضرب تركيا منذ أكثر من 80 عاماً. وهو رابع زلزال كبير أمرّ به، عن قرب أو عن بُعد، منذ أن كنت طفلاً. بعد زلزال مرمرة عام 1999، الذي أودى بحياة أكثر من 17,000 شخص، ذهبت إلى يالوفا، إحدى البلدات التي دمّرتها تلك الكارثة. تجوّلت لساعات بين الأنقاض الخرسانيّة، وقد ملأني الذّنب والشّعور بالمسؤوليّة، واعتقاد بأنّني قد أساعد على الأقلّ في إزالة بعض الرّكام. لكنّي عدتّ إلى بيتي من دون أن أكون قادراً على مساعدة أيّ شخص على الإطلاق. المشهد المذهل لذلك اليوم ظلّ معي، إلى جانب الإحباط والحزن اللذين أردت نسيانهما لكنّني لم أتمكّن من ذلك قطّ». ويواصل القول: «الآن، بدأوا في تصوير الدّمار على هواتفهم، وهم يصرخون «يا الله، يا الله»، وفي غضون ثوان، انهار مبنى بعد آخر مثل بيت من ورق، ولم تتبق في أعقاب ذلك سوى جبال الغبار. نشر العديد من الأشخاص صور الرّعب المروّعة هذه على وسائل التواصل الاجتماعيّ من دون أي تعليق، أو وصف، أو حتّى بضع كلمات مرافقة. وبذلك، كانوا يرسلون رسالتين. الأولى هي الشّيء الجَلِي في صدمتهم: ذهبت إلى يالوفا، إحدى البلدات التي دمّرتها تلك الكارثة. تجوّلت لساعات بين الأنقاض الخرسانيّة، وقد ملأني الذّنب والشّعور بالمسؤوليّة، واعتقاد بأنّني قد أساعد على الأقلّ في إزالة بعض الرّكام. والثّانية هي الشّعور بالهجر واليأس الذي انتاب البلد بأسره، والمروّع بقدر الزلزال نفسه».
بيل ماغواير.. الأرض مكان هشّ للغاية
يصوّر لنا العالم الإنجليزي بيل ماغواير Bill Mc GUIRE، المتخصص في الزلازل والبراكين، في كتابه «الكوارث العالمية/ مقدمة قصيرة جدا»، جملة من المخاطر التي تهدد كوكب الأرض، والعلاقة الموجودة بين الأرض والتغيرات المتعددة التي تكون سببا رئيسيا في حدوث هذه الكوارث الطبيعية، مشددا على ضرورة الوعي بها. هذه الصورة التي يقدمها لنا بكيفية مبسطة وقريبة جدا إلى القارئ غير المتخصص: «اعتدنا أن نشاهد على شاشة التليفزيون أنقاض المدن التي ضربتها الزلازل، أو آلاف اللاجئين المذعورين الهاربين من ويلات انفجار بركاني جديد، حتّى إنّ تلك المشاهد لم تعد تثير دهشتنا أو مخاوفنا، نظرا لأننا بمنأى عن تلك الكوارث مكانا، ولأننا نفتقر إلى التعاطف الحقيقي مع من تحلّ بهم. ترى الغالبية العظمى من السكان الذين حالفهم الحظ بالعيش في المناطق المزدهرة في أوروبا وأمريكا الشمالية وأوقيانوسيا، الكوارث الطبيعية الكبرى على أنّها أحداث سريعة الزوال تحدث في أراض غريبة بعيدة جدا، مع أنّهم هم أنفسهم ليسوا بمنأى تام عن التعرّض لتلك الكوارث. إنّها تثير قدرا من الاهتمام لدى هؤلاء الأفراد، لكنّه اهتمام نادرا ما يكون له تأثير على واقع يومي يكترث فيه الناس لوقوع جريمة قتل في مسلسل شهير أو لإحراز فريق كرة القدم المحلي فوزا، أكثر كثيرا مما يكترثون لوفاة 50 ألف فرد في أحد الانهيارات الطينية في فنزويلا. اللافت للنظر أنّ مثل هذا الموقف تجده سائدا في البلدان المتقدّمة المعرّضة هي الأخرى لوقوع الثورات البركانية والزلازل. تحدّثْ إلى أحد سكان ماموث في كاليفورنيا حول عودة بركان مدينتهم إلى الحياة مرة أخرى، أو إلى أحد سكان ممفيس بولاية تينيسي حول احتمالات تعرّض المدينة لزلزال هائل يسويها بالأرض، ومن المرجّح أن يهزّ كتفيه ويخبرك أنّ لديه أمورا أكثر إلحاحا عليه أن يشغل باله بها. والتفسير الوحيد هو أنّ هؤلاء يعيشون حالة من الإنكار، فهم يدركون تماما أنّ كارثة مروعة ستحدث يوما ما، لكنّهم لا يقبلون حقيقة أنّها قد تحدث لهم أو لأحفادهم.
عندما نتحدث عن الكوارث الطبيعية على نطاق عالمي، ستجد هذا السلوك سائدا في كلّ مكان، في أوساط الحكومات الوطنية، والوكالات الدولية، والتكتلات التجارية المتعددة الجنسيات، وجزء كبير من المجتمع العلمي. لكن هناك بعض الأسباب تدعو إلى التفاؤل، وقد بدأ هذا السلوك في التغيّر في جانب واحد على الأقل. فقد صار الجميع على علم بالخطر الذي يحدق بالأرض من ارتطامها بكويكب أو بمُذنّب، والسباق جارٍ من أجل تحديد جميع الكويكبات التي تقترب من الأرض والتي لديها القدرة على إبادة جنسنا البشري. وبفضل الأفلام الوثائقية التليفزيونية التي تحظى بدعاية واسعة النطاق، والتي تُعرض في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بدأت التهديدات المتفاقمة للانفجارات البركانية الهائلة وموجات التسونامي العملاقة تصل الآن إلى جمهور أكبر بكثير من المجموعات المحدودة من العلماء الذين يعملون على هذه الظواهر. على وجه التحديد، كفلت التغطية الإعلامية الشاملة لتسونامي آسيا عام 2004 استيعاب العالم وتقديره لتلك الظاهرة وقدرتها على إحداث الدمار والخسائر في الأرواح على نطاق واسع، حتى صار ذلك معلوما لدى القاصي والداني. واستجابة لذلك، تسعى حكومة المملكة المتحدة إلى تشكيل لجنة علمية دولية لتقييم الأخطار الطبيعية المحتملة على هذا النطاق، وهناك خطط بلغت من التطور مبلغا في وضع نُظُم إنذار بأمواج تسونامي في كل من المحيطين الهندي والأطلسي.
الواقع أنّ كوكب الأرض مكان هشّ للغاية، مما يجعله محفوفا بالمخاطر، فهو صخرة صغيرة تندفع بعنف وسرعة عبر الفضاء تدمره الحركات العنيفة لقشرته، فضلا عن تعرّضه لتغيّرات مناخية هائلة بسبب تغيّر ظروفه الجيوفيزيائية والمدارية. وبعد مضي 10 آلاف عام فحسب على نهاية العصر الجليدي، يشهد كوكب الأرض أعلى درجات حرارة عرفها تاريخ الأرض الحديث، وفي الوقت نفسه يزيد الانفجار السكاني واستنزاف الموارد البيئية كثيرا من تعرّض المجتمع الحديث للكوارث الطبيعية مثل الزلازل، وأمواج التسونامي، والفيضانات، وثورات البراكين… كوكب الأرض هو الكوكب الأكثر نشاطا في نظامنا الشمسي، وهذا النشاط هو الذي حبانا بمجالنا المغناطيسي، وغلافنا الجوي، ومحيطاتنا، وأخيرا حياتنا. لكن الميزات الجيوفيزيائية التي تجعل الأرض تهب الحياة وتحافظ عليها هي نفسها التي تجعلها محفوفة بالمخاطر. على سبيل المثال، البراكين المذهلة التي ساعدت في وقت مبكر من تاريخ كوكبنا على تكوين الغلاف الجوي والمحيطات هي نفسها التي أبادت خلال القرون الثلاثة الماضية ربع مليون شخص، وألحقت إصابات بأعداد لا حصر لها. في الوقت نفسه، الأمطار التي تغذي الأنهار وتوفر لنا مياه الشرب التي نحتاج إليها للبقاء على قيد الحياة قد دمّرت مساحات شاسعة من الكوكب عن طريق الفيضانات التي بلغت معدلات هائلة في السنوات الأخيرة».