الكريب الإسباني (أنفلونزا عام 1918)
خالص جلبي
في أجواء اندلاع فيروس كورونا من الصين، علينا تذكر أيام كارثة جرت في مطلع القرن العشرين، حيث لم يكن عالم الفيروسات معروفا كما هو في أيامنا الحالية. إنه الدخول الكارثي لعالم الفيروسات. في الواقع لم تكن البداية من إسبانيا، بل أمريكا تحديدا. كانت البداية بسيطة وبريئة، فعند الصباح تقدم جندي أمريكي في ثكنة عسكرية في ولاية أركنساس أنه ليس على ما يرام، كانت الشكوى آلام مفصلية ووهن عام مع ترفع حروري. وسجل الجندي مريضا في ذلك الصباح، ولكن اليوم لم يكتمل إلا وسجلت عشرات الحالات من الشكوى ذاتها، ولم يعثر الأطباء على سبب. وقيل لاحقا إن حرق كمية كبيرة من السماد لربما حرك المرض، ولا يعرف أحد السبب على وجه الدقة حتى اليوم. ولكن الشيء الأكيد الذي يعرفه التاريخ، أن المرض أخذ إلى المقابر في أمريكا 550 ألف ضحية، أكثر مما أخذته كل الحروب الأمريكية. ودفع العالم الثمن رهيبا يومها، فبعد أن استفحل واشتد عوده، انتشر إلى كل القارات وقضى على ثلاثين مليونا من الأنام، فتبارك اسم ربك ذي الجلال. وذكر الشهود الأحياء أن أحدهم كان يستيقظ ضاحكا نشيطا، وفي المساء ميتا طريحا، يودعه أحبابه إلى عالم القبور والبلى. كان المرض يضرب بدون رحمة في أمريكا، التي كانت تعتبر نفسها أمة قوية فتية، فكادت أن تتلاشى من الوجود. وخيم الرعب على الناس ففرغت الشوارع من الناس، وبدت المدن مهجورة لأن كل شيء أغلق خوفا من شبح الموت، الذي يعس في الأزقة على مدار الساعة، يبحث عن ضيوف جدد يضمهم إلى قائمة الأموات. تقول سيدة نجت من الموت: لقد نشطت تجارة الصناديق الخشبية للأموات، وكان النجارون أكثر الناس الذين يكسبون، وباتوا لا يلحِّقون صناعة التوابيت! فلقد كان الأموات أكثر من الصناديق. ثم عمد الناس إلى طريقة جديدة بوضع أمواتهم أمام البيوت مثل القمامات، حتى تمر البلدية فتأخذ الجثث كما تجمع النفايات إلى الحاويات. كان منظرا مرعبا بحق، وكان هذا مع مطلع القرن العشرين ولم يكن قابلا للتصديق، ولكنها حفرت في الذاكرة بسطور من دمع ودم. وكان أكثر ما يقضي على الناس الازدحام، وكانت الحرب الكونية الأولى ناشطة في أوربا، ووقف رئيس الولايات المتحدة يومها ويلسون حائرا أمام الجائحة، والجبهات تطلب المزيد من المقاتلين؛ فاجتمع على الناس الطعن والطاعون. ومن أعظم الأشياء إثارة أن التاريخ حفظ لنا أفلاما من الجائحة؛ فقرب إلينا ماذا كان يفعل الطاعون في العصور الوسطى، حينما كان يهجم على الحضارات فيمحو محاسن تلك الصور. وحاول الناس حماية أنفسهم بكل طريقة ممكنة، فحاولوا وضع الكمامات على الأفواه حتى يحتاطوا، ولكن مثلهم كان مثل من يضع الأسلاك الشائكة لحماية نفسه من دخول الغبار، كما يفعل الصينيون اليوم بسبب بسيط أن الأطباء لم يكونوا يعرفون يومها الفيروسات، بسبب قوة المجاهر المحدودة، وعدم التوصل إلى اختراع المجهر الإلكتروني الذي يكبر عشرات الآلاف من المرات. وعندما درس الأطباء سوائل المرضى المصابين تحت المجهر العادي المتوفر يومها بتكبير ألفي مرة، عثروا على الجراثيم المرافقة للالتهاب، الذي كان يترافق بأشكال حادة من التهابات الرئة، فظنوا أنهم وصلوا إلى العلاج، ولكنه كان سرابا خادعا لم يفعل شيئا، وكان مثلهم مثل من يبحث في أنقاض الزلزال ولا يعرف بعد شيئا عن التسونامي وعلم طبقات الأرض والحركات التكتونية. تماما كما كان الحال مع الكمامات، التي لم تكن تغني أو تسمن من جوع. وفي شهر واحد قضت الجائحة في مدينة بوسطن على 11 ألف إنسان. وبدأ موسم حفر القبور الجماعية، فكان الناس يتعانقون في عالم الآخرة. وتذكر كاتبة صحفية لامعة أنها هوت إلى وهدة المرض؛ فأشرف على العناية بها حبيب قلبها، ولكنه دفع حياته ثمنا للحب، وتذكره الفتاة بعد طول السنين بدمعة حارة. ثم انقشع المرض كما ظهر بدون سبب، واليوم يعرف الطب أن السبب كان فيروس الأنفلونزا. ويحاولون فحص بقايا الجثث التي ضربها الفيروس وحفظت في صقيع كندا. وهذا يعني أن الجنس البشري مهدد بأصغر الكائنات وأضعفها، وفي كل لحظة.
درس الأنفلونزا تكرر في فيروس الإيبولا دراكولا مصاص الدم، إنه فيروس ليس كالفيروسات، يلتوي على نفسه في أعداد لا تنتهي مثل الديدان أو العرى أو الأفاعي، باطنه شحنة من الأحماض النووية تبلغ ضعف ما هي في فيروس الإيدز سيئ الذكر، الذي لم يطوق حتى الآن بعلاج أو لقاح، ومعطفه الخارجي طبقة شحم، وتبرز من أطرافه نتوءات تشبه أقدام الزاحفة (أم أربعة وأربعين).عرف عنه أن فيروس الإيدز أمامه مثل الفرق بين البعوضة والذبابة، ففيروس الإيدز أمامه رحمة! فيروس الإيدز يمشي كلصوص الليل المتسللين، ولا يعلن عن هويته مثل المنافقين، ويضرب ضربته في الظهر بعد حين مثل كل الغادرين. أما فيروس (الإيبولا) الذي أخذ اسمه من نهر في الزايير، حيث زمجر المرض وكشر عن أنيابه، فهو يضرب بسرعة ووضوح وبمنتهى القسوة وبشكل دموي، فحضانته لا تحتاج كما في الإيدز إلى سنوات، بل هي بين 2-21 يوما، وإذا بدأت مظاهر الحمى والألم فيبقى دور الطبيب دور الشاهد، على فصول الموت الأخيرة لا أكثر. وكما انتشر فيروس (الإيدز) سابقا بواسطة الدم وأخلاط البدن والعلاقة الجنسية المشبوهة، فإن فيروس (الإيبولا) يعيد نفس السيرة السابقة. فيروس الإيدز يستخدم استراتيجية التغيير في التركيب الكيماوي الحيوي، حيث يقتحم تركيب الحامض النووي فيصبح قطعة منه، أما استراتيجية فيرس الإيبولا فهي أدهى وأمر، حيث يعمد إلى العنف في التركيب الجزيئي، بمعنى أنه يعرف لغة واحدة فقط هي: التكاثر والتكاثر والتكاثر.