كان الفنان الراحل عبد الرحيم التونسي الشهير بلقب «عبد الرؤوف» يجمع بين الكوميديا والرياضة والمقاومة. تحدى اليتم وعاش مكافحا منذ طفولته الشقية ولم يختلف كثيرا في بداياته عن شارلي شابلن مع فرق بسيط أن عبد الرحيم عاش التفكك العائلي في درب سيدي فاتح في المدينة القديمة للدار البيضاء، وشارلي ولد في لندن.
ولأن «عبد الرؤوف» عاش طفولته وشبابه في المدينة القديمة، فقد كان عاشقا للوداد البيضاوي، مترددا على ملعبي البحرية وفيليب لمتابعة مباريات هذا الفريق. لكن الملعب الحقيقي الذي مارس جاذبيته على الفتى هو المسرح، حين استقطبه مقر حزب الاستقلال في عرصة الزرقطوني، من عالم الكرة، على سبيل الإعارة، حين لمس فيه قدرة على انتزاع الابتسامة من الناس، في زمن كان فيه الكوميديون يعدون على رؤوس «الأظافر».
ظل «عبد الرؤوف» يشكل امتدادا فنيا لحركة المقاومة المغربية، ضمن تشكيلة خلية المدينة القديمة، مما أدخله لسجن «اغبيلة» بالدار البيضاء سنة 1954، رفقة مجموعة من الوطنيين، اتهموا بتصفية أحد المتعاونين مع الإقامة العامة، قضى فترة طويلة دون محاكمة.
في هذا المعتقل قدم «عبد الرؤوف» أولى عروضه الهزلية لفائدة النزلاء بإيعاز من مدير السجن الذي كان ينظم أمسيات فنية بالاستعانة بالمعتقلين أنفسهم. قدم عبد الرحيم التونسي العرض الفكاهي وهو يخفي جسده في «قب» جلباب حيث لم يكن يملك الجرأة للنظر في تقاسيم وجوه النزلاء وإدارة السجن التي تتابع العروض. لكن النزيل عبد الرحيم سيغادر المعتقل بإعاقة حيث أصيب على مستوى الرأس إثر انتفاضة للسجناء.
كل ما يملك «عبد الرؤوف» بطاقة مقاوم وكدمات شاهدة على عصر النضال، بينما ينعم المنتفعون من المقاومة بمكاسب لا حصر لها، لهذا نجد أكثر من مبرر لرفضه تسلم تذكار من المندوب السامي للمقاومة داعيا للقطع مع «أرخص التكريمات».
اشتغل عبد الرؤوف لفترة في مصنع السيارات «صوماكا»، لكنه تعرض لحادثة شغل قضى إثرها فترة طويلة أسير سرير في مستشفى ابن رشد، ليختار بعدها اعتزال الشغل، وحين ودعه زملاؤه قال أحد المسؤولين ساخرا: «بقدر ما نحزن على مغادرتك للمصنع، بقدر ما نسعد بذلك لأن سخريتك تجعل العمال تحت تأثيرها أثناء العمل».
لم تكن شركة التأمين رحيمة بالرجل، فبعد حادث الشغل ظل التونسي يتقاضى تعويضا لا يتعدى ثلاث مائة درهم كل ثلاثة أشهر، أي بمعدل مائة درهم شهريا. من يسخر من الآخر «عبد الرؤوف» أم شركة التأمين؟
كثير من الكوميديين المغاربة ينتزعون منا الابتسامة غصبا عن الزمن، وحين يختلون بأنفسهم يلعنون الزمن الجاحد، في قفشاتهم تتسلل نبرات حزن وفي ضحكاتهم تقاسيم ألم خفي. فالكوميدي نادرا ما يوزع الابتسامة خارج فضاء الفرجة.
حين يموت أقطاب الفكاهة تحتل التراجيديا أماكنهم تتعقب جثامينهم تسير في مواكبهم الجنائزية، وترخي بظلال الحزن على حفلات التأبين.
حين ودعنا الكوميدي بن إبراهيم، علمنا كيف استطاع الرجل الذي أضحك الملايين ابتلاع آلامه في وحدته، وحين رحل نور الدين بكر تبين أن التمثيل كالفقر كاد أن يكون كفرا، وعندما ترجل القدميري وبلقاس وعبد الجبار وفنانو أسطوانات «بوسيفون» سقطوا من الذاكرة.
اليوم يعيش بيننا كوميديون تخرجوا من برامج مسابقات تلفزيونية، لهم كوتش ورعاة ومحتضنون ووكلاء أعمال، يركبون أفخم السيارات ويتسيدون «أفيشات» كبريات المهرجانات، ويجتمعون كل شهر في باحة الكوميديا الرمضانية ليسجلوا حضورهم ثم ينصرفون. إنهم كلاعبي الكرة هواة يمارسون في مسارحنا ومحترفون ينشطون البطولات الأوربية كالمالح والدبوز.
قال أحد اللاعبين الذين يسكنهم حس فكاهي لحكم مباراة: «لا تعطيني ضربة جزاء، بل علمني كيف أصطادها».
حسن البصري