شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

الكتب التي توقظ العقل

 

بقلم: خالص جلبي

 

أجمل الكتب تلك التي توقظ الوعي وتشحذ ملكة النقد، ولكنها ليست كثيرة، ولعل أهم ميزة فيها أنها عابرة للزمن كما في مقدمة ابن خلدون مثلا، بل وقبل كل كتاب أبو الكتب وأمها القرآن الخالد، فكتب التفسير التي حامت حول معانيه ربما زادت على عشرين ألفا. وفي مكتبتي أنا شخصيا عشرة كتب للتفسير وهي تحدد المرحلة الزمنية التي كتبت فيها وتجاوزها الزمن، في حين صمد القرآن بعناد يتحدى كل ذي عقل أن يأتي بحديث مثله. ولذا من يفتح كتب التفسير عليه أن ينتبه إلى الزمن الذي عاش فيه صاحبه، مثل الطبري وابن كثير أو النسفي ورشيد رضا أو القاسمي وسيد قطب، وأنا شخصيا اشتغلت عليه ثماني سنوات حتى أتممت حفظه، وما زلت أقلب فيه أبحث عن المعنى كل يوم. بل أضع تفسيرا خفيفا بين كل يوم وآخر تحت عنوان المدخل إلى القرآن الكريم، وهو مفيد لمن يريد الاستزادة من العلم وروح القرآن.

وأعظم عمل يعمله الفرد في بيته وضع مكتبة من ذخائر الكتب لا تزيد على بضع مئات في فترة عشر سنين. ربما في حدود 500 ويمكن أن تصل إلى 5000، ولكن من المهم أن تحتوي على ذخائر الفكر الإنساني. وكتاب مثل القرآن غير التاريخ، وكتاب «رأس المال» لكارل ماركس تحول إلى إنجيل في يد الشيوعيين. والكتاب الأحمر لماو تسي تونغ كان وقود الثورة الثقافية في الستينيات. أما الكتاب الأخضر فلم يوزع إلا بقوة المخابرات والدولار لقوم لم يقرؤوه قط، وأنا شخصيا حين كنت في ألمانيا أرسلت إلي سفارة القذافي يومها نصف طن من هذا الغثاء، فلم أكلف نفسي فتح صفحة من هذا الهراء.

 وأقوى الكتب ما ثبت وبقي مع الوقت، مثل قوة الذهب واليورانيوم. والناس يقرؤون حتى اليوم حكم كونفوشيوس، والطرق الثماني لبوذا، وهكذا تكلم زرادشت لفيلسوف القوة فريدريك نيتشه. ويحلق «ابن خلدون» في مقدمته عبر القرون بكل جبروت فيطل من علو، أما كتابه في التاريخ فلا يقرؤه إلا المتخصصون. ودُمِّر فكر المعتزلة ولكن أفكار «إبراهيم النظام» في الطفرة ما زالت تستهوي «محمد إقبال»، فيكتب عنه في تجديد التفكير الديني عن مغزى الزمن وحل معضلة زينون وميكانيكا الكم. ويعتبر «برتراند راسل» أن مائة دماغ في التاريخ يزيد وينقص كانت خلف أسرار النهضة في أوروبا، ولو أجهضت بشكل وآخر لسارت أوروبا قرونا أخرى في ظل محاكم التفتيش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ونحن نظلم التاريخ حين نقول إن أفكارا بعينها غيرت مجرى تدفق الأحداث؛ بل يجب النظر إلى روح العصر وتفاعل عناصر لا حصر لها في ولادة الأحداث، مثل انفجار الأمراض، وهو أمر نعرفه نحن الأطباء جيدا، ولذا كان الطب علما والسياسة دجلا. وجانب كارل ماركس الصواب، حينما زعم أن الاقتصاد خلف كل شيء، أو فرويد أن الجنس صانع التاريخ، فالتاريخ عصي على كل تفسير.

ويحسن صنعا شراح الفكر الفلسفي في جامعة «مك جيل» في مونتريال، حين يقولون للطلبة: يمكن أن نشرح لكم تدفق الأحداث من حيث انتهت، أما ماذا يحدث في الغد؟ فعلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى».

والأشياء تبدأ صغيرة لتصبح كالسيل العرم، ولا يتفطن إلى هذا التطور كما يقول ابن خلدون إلا الآحاد من الخليقة. ومن ملأ بيته بكتب السحرة تحول إلى ساحر. وعندما أدخل بيت أحد الناس أعرف أين يعيش؛ فإن كان أعظم ما في البيت المطبخ والأواني، عرفت أنه خارج إحداثيات الزمان والمكان يعيش مثل السنوريات.

ودخلت بيت طبيب يوما فرأيت الرفوف احتشدت بكتب ضخمة مذهبة العقب، فسألني عنها حين رآني أشمشم الكتب قبل كل شيء، وهي عادتي في دخول أي بيت جديد. قلت له: عليك أن لا تغضب مني فأنت تعيش عصر المماليك الشراكسة، أيام سعيد جقمق. والرجل فوجئ مرتين بالحكم القاسي، كما أنه لم يكن قد سمع بسعيد جقمق (جقمق تعني القداحة، أو الولاعة، أو «البريكة» عند المغاربة).

وفي النماص من عسير تحدثت مع طائفة من مثقفي القوم، فتحدثت عن ابن خلدون فاكتشفت أن بين القوم من لم يسمع بعد به! وحين تنسى الأمم رجالها من العقول المبدعة، فتودع منها. وقبل أيام كنت أحدث شابا متدينا عن رياض الترك، الذي سجنه الطاغية الأسد الأب سبعة عشر عاما في سجن انفرادي، في الوقت الذي كان واعظ السلطان البوطي يقسم للطاغية أن ابنه يطير بجناحين من فضة في الجنة، ويأوي إلى حواصل طير خضر، قال: لم أسمع به. قلت له: إنها أرض تجمع قومين من يعيش بيولوجيا وفكريا، وتذكرت الأتراك في ألمانيا فقد يعمل العامل في مصانع تيسين للحديد عشرين عاما، ولم يسمع عشرين كلمة عن هايدغر وكارل ياسبرز من عمالقة الفكر، لأن ألمانيا تعني له عملا وعشاء وبرامج ترفيهية.

وفي يوم خرجت من صلاة العشاء، فحدثت طبيبا اختصاصيا في الجهاز الهضمي تخرج من جامعات فرنسية، عن توينبي المؤرخ العملاق، قال: لم أسمع به! قلت له: إنها كارثة فكرية. زلقني بنظرة غاضبة وأجاب بحدة: هي كارثة عليك وليس لي. قلت له: صدقت غلبتني. ورددت في قلبي قول الشافعي: ما جادلني جاهل إلا غلبني. ومن قلب أمريكا أرسل إلي طبيب يدرس في أبحاث المناعيات قد تعلق قلبه بواعظ شعبي في مصر أظنه عمرو فتعجبت، وعرفت أن العقل المسلم منشطر قسمين، فنصفه في الماء ونصفه في الطين، كما جاء في «قرآن مسيلمة» عن الضفدع.

 

نافذة:

أقوى الكتب ما ثبت وبقي مع الوقت مثل قوة الذهب واليورانيوم والناس يقرؤون حتى اليوم حكم كونفوشيوس والطرق الثماني لبوذا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى