نجوى بركات
كان في وسع كاتب الرواية، في ما مضى، أن يتوقف عن السرد في أماكن معينة يحددها هو لنفسه، كما يتوقف قطار بمحطات معينة، أو عربة تجرها الخيول، فالوقت ليس ضاغطا، والكتابة، مثل وسائل السفر حينذاك، يمكن التحكم فيها، والروائي، كما السائق، يمكنه تقطيع الوقت واستمهاله إن شعر بتعب، أو بغموض فكرة، فنراه متمهلا لوصف شخصية طرأت على المشهد، أو لتوصيف حدث، أو لإطلاق فكرة أو إعطاء رأي، أو تصويب أمر. ولم تكن مواضع التمهل أو الإبطاء، أو تلك الوقفات القصيرة لتزعج القارئ، بل إنه كان يعتبرها حتى من واجب الروائي/ السائق إذا صح التعبير، تسهيلا لمهمته وإراحته من ضرورة التفكير الزائد أو طرح تساؤلات لا يجد الإجابات عنها دائما، فالقراءة رحلة وجب أن تكون ممتعة قبل كل شيء، ومريحة على وجه الخصوص، خالية من أية مطبات أو مفارق خطرة تشتت ذهن المسافر أو تشغل باله بما يفوق قدرته على التوقع أو الاحتمال. والقراءة في تلك الأزمنة وجب عليها أيضا أن تملأ وقتا مقيما، ممتدا، طويلا ومتواصلا كمياه نهر سائر بتساو وهدوء.
في روايته التي تحمل عنوان «البطء»، يقول الكاتب التشيكي ميلان كونديرا: «درجة السرعة متصلة نسبيا بدرجة النسيان. من هذه المعادلة، يمكن استخلاص نتائج مختلفة، على سبيل المثال: يستسلم عصرنا لشيطان السرعة. ولهذا السبب، ينسى نفسه بسهولة. ومع ذلك، أفضل عكس هذا التأكيد والقول: عصرنا مهووس بالرغبة في النسيان، ومن أجل إشباع هذه الرغبة، تراه مستسلما لشيطان السرعة. العصر يسرّع وتيرته، لأنه يريدنا أن نفهم أنه ما عاد يرغب أن نتذكره، أنه ضجر من نفسه؛ مشمئز من ذاته».
في عربة الخيل وفي القطارات القديمة، المسافات طويلة والحركة بطيئة، كذلك هي الكتابة، قادرة على إنتاج روايات أنهار من مئات الصفحات. أحيانا أفكر أن الكتابة مرتبطة بالحركة، بتحولاتها، وأنها تتبدل بتبدل سرعتها. الرواية لم تولد عندنا، نحن العرب عرفنا أنواعا أخر من السرد. قصص تتوالد من أخرى، أو سير بطولية لا تنتهي. الرواية بشكلها المعروف ولدت بالغرب، وإن كانت قد رافقت مغامرات الفرسان والفروسية، فقد جاء سيرفانتس ليسخر منها، واضعا أول رواية غربية حديثة. الرواية ولدت من الاستثناء، فارسٌ ليس بفارس يروي مغامراته التي ليست بمغامرات.
لتطور الكتابة صلة بتطور الحركة. وسائل التنقل السريعة قضت على الرواية المتمهلة البطيئة، والكاتب اضطر مرغما إلى التخلي عن وقفاته القديمة، وعن حريته في التباطؤ والاستراحة أو الشطط من حين لآخر، لكي يركز كامل انتباهه على الطريق حيث يسير.
الأحصنة، ثم المراكب، ثم القطارات، ثم السيارات وأخيرا الطائرات. لا بد وأن خيال الروائي انفلت من عقاله، أن الجاذبية اختفت، وأنه صار بإمكانه التحليق متى شاء وكيفما اتفق، صعودا أو نزولا. لا قوانين تعيق حركته بعد الآن. يمكنه أن يجرب كل الأساليب والأنواع الأدبية، أن يطير حتى إذا شاء، أن يغوص في أعماق البحر، يبلغ كواكب أو مجرات قصية، يخترع كائنات لا وجود لها، يسافر إلى أزمنة يختلقها من شبه خلية. على الروائي أن يكون يقظا، خفيفا، فطنا، أن يأتي بجديد، أن يخترع السرعة الخاصة به، ويعتمد البطء حيث ينبغي، بالمعايير اللازمة، لا أكثر ولا أقل، فدورة الأرض تتسارع، والأوراق تقل، والأفكار تؤتي ثمارها في موسمها، وفي غير موسمها أيضا…