بقلم: خالص جلبي
منذ أكثر من خمس وعشرين سنة وأنا أمني النفس بزيارة قبر المعتمد بن عباد في أغمات، وهي قرية تقع جنوب وسط المغرب، وتبعد ب 32 كيلومترا عن مدينة مراكش، في ضريح معزول، بعد أن قرأت موسوعة عبد الله عنان، عن التاريخ الأندلسي في سبعة مجلدات، ثم زدته واحدا عن الخطط المصرية وذكره للطاعون الذي ظل يخيف الأمم بعدما أذهب العديد من الضحايا عام 1348 م، وهو ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته عن الطاعون الجارف الذي جرف الأرواح إلى عالم الأتراح في منتصف المائة الثامنة، أي الهجرية مقارنة بالميلادي، وهو طاعون عم الأرض وقتل ثلث سكان أوروبا في أقل التقديرات.
قرأته بتمعن ولذة على مدى ستة أشهر، حتى استوعبت تلك الفترة التاريخية المليئة بالأسى والانحطاط لقدر الأندلس، كذلك صعود دول وقوى جديدة مثل العثمانيين، وبالمقابل الإسبان الذين كانوا رأس رمح الدول الأوروبية حتى زالت ورجعت إلى الزاوية الخلفية من التقدم الأوروبي وسببه التعصب الديني الذي هو مثل مرض القراد في مستعمرات النحل، فلا يترك قفيرا ولا أجنحة للنحل. والله وارث الأرض ومن عليها.
وبقدر ما كانت الموسوعة شيقة في ملء الثغرة المعرفية عندي حول التاريخ الأندلسي، وعلاقته بحروب الاسترداد الإسبانية، وتاريخ الشمال الإفريقي، ونهضة دول عظيمة مثل المرابطين والموحدين، بقدر ما كانت قصة موت ملك إشبيلية «المعتمد» وزوجته وأم أطفاله التي تسمت تيمنا باسمه «اعتماد» حزينة أسيفة.
كنت مدعوا إلى مؤتمر في مراكش في ماي 2009م، ترعاه جمعية «حضن» حول الاستقرار الأسري، فانتهزت فرصة قربي من أغمات، مثوى الحبيبين المعتمد واعتماد، وذهبت إلى هناك بعد طول انتظار، وهي نصيحة مزدوجة لكل من يقرأ مقالتي مرتين، أن يزور المغرب الجميل النظيف الأنيق ذا الطبيعة الساحرة، المرتخي عند شواطئ الأطلسي، بدون عسكرة وخندقة، ونصيحتي أن يزور قبر الثلاثة «اعتماد» و«المعتمد» وقبر ثمرة الحب بينهما ولدهما «الربيع».
وقف المرشد يقرأ لي عند حافة القبور الثلاثة، وأنا أغالب دمعة طفرة من عيني فلم أستطع لها إمساكا؛ قال انظر إلى هذا الشعر إن مقدمة حروف أبياته تجتمع فتشكل كلمة اعتماد، فهل هناك حب أعظم بين هذين الإنسانين؟
أغائبة الشخص عن ناضري // وحاضرة في صميم الفؤاد
عليك السلام بقدر المسجون // ودمع الشؤون وقدر السهاد
تملكت مني صعب المرام // صادفت ودي سهل القياد
مرادي لقياك في كل حين // فياليت أني أعطى مرادي
أقيمي على العهد بيننا // ولا تستحيل لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طي شعري // وألفت فيه حروف اعتماد.
(تأمل الكلمات الأولى من الأبيات، أغائبة + عليك + تملكت + مرادي + أقيمي + دسست)، فمن مجموع بداية الكلمات يتراكب من الحروف اسم اعتماد التي يحبها!
وهناك وقفت أنا على قبرهما أبكي بخشوع، وأقرأ بالخط المغربي الأبيات الأخيرة التي سطرها وأكاد لا أتبين الأحرف بين دموعي؛ وهي تنساب كموج نهر يتلوى ليموت في لجة المحيط.
علل فؤادك قد أبل عليل // واغنم حياتك فالبقاء قليل
لو أن عمرك ألف عام كامل // ما كان حقا أن يقال طويل
أكذا يقود بك الأسى نحو الردى // والعود عود والشمول شمول
بالعقل تزدحم الهموم على الحشا // فالعقل عندي أن تزول العقول.
كاد الرجل أن يفقد عقله بعد أن فقد كل العز والملك وأصبح سجينا وحيدا يقتات على الذكريات! إنها لحظات تقترب بصاحبها من الجنون، كما حصل مع جون ناتش صاحب العقل الجميل! وكما حصل معي حين رسا بي المطاف يوما في الانفرادية مع طاعون البعث الذي قضى على كل أمل في المستقبل. فماذا هذا الكون الذي دلفنا إليه، وما هذه المسرحية التي نمثلها؟ بكيت وبكيت وتذكرت ليلى، وقلت نعم فالبقاء قليل حقا، ولو عمر أحدنا ألف عام!
لم يا ابن تاشفين عاملته هذه المعاملة؟ لم تركنا بلادنا العزيزة وخسرنا الوطن بدون صهاينة؟ ما معنى المرض العربي السرطاني؟
لم تجعلنا نبكي كلما تذكرنا هذا الإنسان الكريم؟ لم الذل لهامة كبيرة؟ لم الحبس والسجون والفلق؟ أليس بإمكان العرب أن يتفاهموا بدون أن يذل بعضهم بعضا ويطحن بعضهم بعضا؟ ألم يكن بالإمكان أن ينتهي بشكل أفضل؟ هل كتب في قدر تاريخنا أن نمر على جسر من المعاناة وفوق نهر من الدموع؟
ثم مررنا في مراكش بجنب قبر ابن تاشفين الذي بالكاد تتبينه، ولكنني أمسكت دموعي من جديد، وقلت غفر الله لكما معا فأنتما اليوم بعد الموت عند ربكما تختصمان، ثم التفت إلى نفسي ولملمت ثيابي في برد مراكش وقلت ليرحمنا الله جميعا.
نافذة:
كنت مدعوا إلى مؤتمر في مراكش في ماي 2009م ترعاه جمعية «حضن» حول الاستقرار الأسري فانتهزت الفرصة لزيارة مثوى الحبيبين المعتمد في أغمات